Hukum Asal Daging Hewan, Halal atau Haram?
Hukum Asal Daging Hewan, Halal atau Haram? Ini terkait dengan sejumlah kasus. Misalnya, ketika ada di suatu restoran memesan daging, bagaimana status daging tsb: apakah halal atau haram? Apakah wajib bagi kita untuk menanyakan apakah sudah disembelehi secara Islam atau tidak? Ataukah tidak wajib menanyakan hal itu?
Hukum Asal Daging Hewan, Halal atau Haram? Ini terkait dengan sejumlah kasus. Misalnya, ketika ada di suatu restoran memesan daging, bagaimana status daging tsb: apakah halal atau haram? Apakah wajib bagi kita untuk menanyakan apakah sudah disembelehi secara Islam atau tidak? Ataukah tidak wajib menanyakan hal itu?
قاعدة الأصل في اللحوم والذبائح
مع تقدم الزمان وتطور وسائل الحياة، التجأت كثير من الدول الإسلامية إلى الاعتماد المباشر على البلاد الغربية في استيراد ما يلزمها من اللحوم والذبائح، وربما اعتمد الكثير منها على الأسلوب الغربي في الذبح، طلباً للمنافسة في العرض لتحقيق الربح المادي السريع، وتلبية لمتطلبات السوق وحاجاته، الأمر الذي أوقع كثيراً من الناس في الشك والريب، من جهة أن هذه اللحوم والذبائح هل هي مذكاة وفق القواعد والضوابط الشرعية أو لم يراع فيها الشروط الشرعية في ذلك؟
ومن خلال البحث والقراءة في هذه المسألة وجدنا أن كثيراً من الفقهاء يذكرون قاعدة مهمة في هذا الباب تنص على أن الأصل في اللحوم والذبائح التحريم حتى يتبين أو يغلب على الظن دليل الجواز، كما هو مذهب جمهور الفقهاء.
وفي المقابل نجد أن بعض المعاصرين يخالف هذا الأصل ويقول إن القول بأن الأصل في اللحوم الحل أولى من القول بأن الأصل فيها التحريم.
وقد استدل كل فريق من بما يراه من أدلة تساند قوله ومذهبه.
جمهور الفقهاء يرون أن
الأصل في اللحوم والذبائح التحريم
يرى جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة أن الأصل في لحوم وذبائح الحيوان مأكول اللحم التحريم، ما لم تتحقق شروط إباحته ، وهي:
1) أن يكون من حيوان يحل أكله؛ كالغنم والبقر والإبل، ونحوها مما ورد النص بحل أكله؛ فإن لم يعلم، فلا يحل.
2) أن يذكى الذكاة الشرعية بقطع الودجين، والبلعوم والمرئ.
3) أن يعلم من ذبحه بأن يكون مسلماً أو كتابياً.
ومما ورد من كلامهم في هذه المسألة ما يلي:
أ - مذهب الحنفية:
قال الكاساني الحنفي : « الحرمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح وأنه لا يزول إلا بالذبح والنحر » [بدائع الصنائع (6/5672)].
وقال ابن عابدين : «وحرم حيوان من شأنه الذبح ما لم يذك» [حاشية ابن عابدين (6/492)].
ب- مذهب المالكية:
قال ابن العربي المالكي: «قال علماؤنا: الأصل في الحيوان التحريم، لا يحل إلا بالذكاة والصيد؛ فإذا ورد الشك في الصائد والذابح بقي على أصل التحريم» [أحكام القرآن (2/35)].
ويقول الإمام الشاطبي : « فالأصل في الأبضاع المنع إلا بالأسباب المشروعة، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة» [الموافقات (1/401)]
ج- مذهب الشافعية:
قال الإمام الخطابي : «البهيمة أصلها على التحريم حتى تتيقن وقوع الذكاة؛ فهي لا تستباح بالأمر المشكوك» [معالم السنن (4/282)].
وقال الغزالي: «القسم الأول : أن يكون التحريم معلوماً من قبل ثم يقع الشك في المحلل، فهذه شبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها، مثاله: أن يرمي إلى صيد فيجرحه ويقع في الماء، فيصادفه ميتاً، ولا يدري أنه مات بالغرق أو بالجرح، فهذا حرام؛ لأن الأصل التحريم» [إحياء علوم الدين (2/140)].
وقال الرافعي: «وليست اللحوم على الإباحة أيضاً؛ ألا ترى أنه لو ذبح المشرف على الموت وشك في أن حركته عند الذبح كانت حركة المذبوح أو حياة مستقرة، يغلب التحريم، ولك أن تقول في توجيه المنع على قاعدة اعتبار العلامات: إن فقدت العلامات ههنا فقد تعذر الاجتهاد، وإن وجدت فالعلامات إنما تعتمد عند تأييدها بالأصل لما سيأتي ولم توجد ههنا» [فتح العزيز شرح الوجيز (1/280)].
وقال النووي: «فيه بيان قاعدة مهمة وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه» [شرح صحيح مسلم (13/116)].
وقال أيضاً: «لو وجدنا شاة مذبوحة ولم ندر من ذبحها؛ فإن كان في بلد فيه من لا يحل ذكاته كالمجوس لم تحل، سواء تمحضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين؛ للشك في الذكاة المبيحة، والأصل التحريم، وإن لم يكن فيهم أحد منهم حلّت، والله أعلم» [المجموع شرح المهذب (9/8)].
وقال ابن دقيق العيد: «إن الأصل التحريم في الميتة، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل، وكذلك إذا شككنا أن الصيد مات بالرمي أو لوجود سبب آخر يجوز أن يحال عليه الموت لم يحل» [إحكام الأحكام (2/288)].
وقال السيوطي : «الفائدة الثانية: قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب شك طرأ على أصل حرام، وشك طرأ على أصل مباح، وشك لا يعرف أصله، فالأول مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحلّ حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأنها أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة» [الأشباه والنظائر (ص74)].
وقال أيضاً في معرض تمثيله لما يندرج تحت قاعدة (الأصل بقاء ما كان على ما كان) من الصور: «أسلم إليه في لحم فجاء به، فقال المسلم: هذا لحم ميتة أو مذكى مجوسي، وأنكر المسلم إليه؛ فالقول قول المسلم القابض، قطع به الزبيري في المسكت والهروي في الإشراف، والعبادي في آداب القضاء، قال: لأن الشاة في حال حياتها محرّمة، فيتمسك بأصل التحريم إلى أن يتحقق زواله» [الأشباه والنظائر (ص115)].
وقال زكريا الأنصاري: «ولا يصح شراء لحم مجهول الذكاة الشرعية بقرية يسكنها مجوس؛ لأن الأصل في الحيوان التحريم، فلا يزال إلا بيقين أو ظاهر، فإن كان غالب أهل البلد مسلمين صح شراؤه، فإنه يجوز أكله عملاً بالغالب والظاهر، ذكره في المجموع» [أسنى المطالب (2/41)].
وقال ابن حجر الهيتمي : « وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفّار وثنية، وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني، فهل يحلّ أكل تلك الشاة المذبوحة التي وجدت في تلك المحلة أم لا؟ فأجاب: بأنه حيث كان ببلد فيه مَن يحلّ ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني، ومَن لا يحلّ ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد، ورؤي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلاً، وشكّ هل ذبحها مَن يحلّ ذبحه لم تحلّ للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه » [الفتاوى الكبرى (1/45، 46)].
د - مذهب الحنابلة:
قال ابن قدامة المقدسي: «الأصل الحظر، والحل موقوف على شرط وهو التذكية من هو من أهل الذكاة أو صيده» المغني (13/18).
وقال ابن تيمية : «ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات» [مجموع الفتاوى (32/190)].
وقال أيضاً: : «والذي عليه عوام أهل العلم أن التحريم يقتضي الفساد؛ وذلك لأن الفروج محظورة قبل العقد، فلا تباح إلا بما أباحها الله سبحانه من النكاح أو الملك، كما أن اللحوم قبل التذكية حرام، فلا تباح إلا بما أباحه الله من التذكية، وهذا بيِّن» [الفتاوى الكبرى (3/314)].
وقال ابن القيم : « ثم النوع الثاني : استصحاب الوصف المُثْبِت للحُكم ، حتى يثبت خلافه ، وهو حجة ، كاستصحاب حكم الطهارة ، وحكم الحدث ، واستصحاب بقاء النكاح ، وبقاء المِلك ، وشغل الذمة بما تشغل به ، حتى يثبت خلاف ذلك ، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد (وإن وجدته غريقاً فلا تأكله ؛ فإنك لا تدري الماءُ قتله أو سهمك) ، وقوله (وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ؛ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على غيره) .
لمَّا كان الأصل في الذبائح : التحريم ، وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا : بقي الصيد على أصله في التحريم » [إعلام الموقعين (1/339، 340)].
وقال أيضاً: «إن باب الذبائح على التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة، لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه.
أحدها: تأييده الأصل الحاظر.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ورجعا إلى أصل التحريم» [أحكام أهل الذمة (1/538، 539)].
وقال ابن رجب الحنبلي : «وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم، ولهذا نهى النبي من أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه أو كلب غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره» [جامع العلوم والحكم (ص93)].
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في منظومة القواعد :
«والأصل في الأبضاع واللحوم والنفس والأموال للمعصوم
تحريمها حتى يجيء الحلُّ فافهم هداك الله ما يُمَلُّ»
ثم قال رحمه الله في شرحها:
«يعني أن الأصل في هذه الأشياء التحريم حتى نتيقن الحل.
فالأصل في الأبضاع التحريم، والأبضاع: وطء النساء، فلا يحل إلا بيقين الحل، إما بنكاح صحيح، أو ملك يمين، وكذلك اللحوم، الأصل فيها التحريم، حتى يتيقن الحل. ولهذا إذا اجتمع في الذبيحة سببان: مبيح ، ومحرِّم، غلِّب التحريم، فلا يحل المذبوح والمصيد» [رسالة في القواعد الفقهية - المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي - الفقه ( المجلد1/ص142)].
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: «الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها ممن أهل للتذكية، فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به, وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي, فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم, وهو: مجرى النفس, والمريء, وهو: مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم» [مجلة البحوث الإسلامية - الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد (6/130)].
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : «الأصل في الذبائح والذكاة التحريم حتى نعلم كيف وقع الذبح، وكيف وقعت الذكاة، وذلك لأن من شروط الحل أنه ذكي أو ذبح على وجه شرعي» [من فتاوى الصيد (ص26-27) إعداد : عبدالله الطيار].
أدلة القائلين بأن
الأصل في اللحوم التحريم
استدل القائلون بأن الأصل في اللحوم والذبائح التحريم بالكتاب والسنة والمعقول.
أما دليل الكتاب :
أ - قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم﴾ [المائدة: 3].
وجه الدلالة من الآية: أن ما لم تتحقق فيه الذكاة الشرعية فإنه باق على أصله وهو التحريم.
ب- قوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ [الأنعام: 121].
وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى نهى عن الأكل من الذبائح إذا لم تتحقق فيها الذكاة الشرعية؛ فدل ذلك على أن الأصل فيها التحريم وأنها لا تحل إلا بشرط التذكية.
وأما دليل السنة:
فما روى البخاري في صحيحه من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إذا أرسلتَ كلبكَ وسمَّيتَ فأمسَكَ وقتلَ فكُلْ، وإن أكلَ فلا تأكلْ؛ فإنما أمسكَ على نفسه، وإذا خالطَ كلاباً لم يُذكر اسمُ الله عليها فأمسكنَ وقتلنَ فلا تأكلْ؛ فإنك لا تدري أيها قتلْ، وإن رميتَ الصَّيدَ فوجدته بعد يومٍ أو يومينِ ليس به إلا أثر سهمكَ فكُلْ، وإن وقعَ في الماءِ فلا تأكُلْ» [رواه البخاري في صحيحه (5/2089، رقم 5167)].
وجه الدلالة من الحديث: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل من الذبيحة التي يشك في تحقق شروط تذكيتها الشرعية دليل على أن الأصل فيها التحريم ما لم تستكمل شروط إباحتها، فإذا لم تحقق هذه الشروط أو شك فيها ، رجع الحكم فيها إلى الأصل وهو التحريم.
أما دليل المعقول:
أ ) أن حل الذبيحة مبني على تحقق الذكاة على وجهها الشرعي، فإذا انتفت هذه الشروط أو شك في تحققها، فإنه لا يحل أكلها؛ فدل على أن الأصل فيها التحريم.
ب) أن دليل التحريم حاظر، ودليل القائلين بالإباحة مبيح، والقاعدة في اجتماع الحاظر والمبيح أن يقدم دليل الحظر على دليل الإباحة؛ لأنه أحوط وأبعد عن الشبهة.
من يقول إن
الأصل في اللحوم الحل والإباحة
ذهب بعض المعاصرين إلى خلاف ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فقالوا بأن الأصل في اللحوم والذبائح الحل والإباحة، ما يتبين خلاف ذلك.
وقد ادعى بعضهم أن هذا هو مذهب جمهور الفقهاء - وفيه نظر كما سبق من خلال العرض السابق لأقوال الجمهور-.
وممن ذهب إلى القول بأن الأصل الإباحة: الدكتور سعد الشثري، والدكتور سعد الخثلان، والشيخ صالح الأسمري.
ويقول الدكتور سعد الشثري في شرحه لمنظومة قواعد السعدي: « (والأصل في اللحوم التحريم) وهذا مذهب بعض الفقهاء، أن الأصل في اللحوم هو التحريم. ويستدلون على ذلك بحديث عدِي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم، ووجدت معه غيره فقتل، فلا تأكل فإنك لا تدري أيَّهما قتل) ، ويستدلون على ذلك: بأنه إذا اجتمع في نوع اللحم سبب مُبيح وسبب حاظر، غلب جانب الحظر. كما في البغل، وكما في الطير إذا صيد بالسهم، فوقع في الماء . وقد ورد في ذلك حديث في النسائي .
ويدل على: أن الأصل في اللحوم هو الجواز والحل، قوله سبحانه: ﴿قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾ الآية، فإنه دل على: أن الأصل هو الحل والجواز، وأن التحريم مستثنى. ويدل على ذلك: قوله جل وعلا: ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ ؛ فدل أن الأصل هو الحل والجواز في اللحوم المأكولة، وأن التحريم مستثنى .
ويدل عليه أيضاً قوله جل وعلا: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ ؛ فحصر المحرمات بأداة الاستثناء (إنما) وقوله جل وعلا: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾ الآية، فدل ذلك على أن الأصل في اللحوم هو الإباحة ...» [شرح منظومة القواعد الفقهية للشيخ السعدي].
ويقول الشيخ سعد الخثلان بعد أن ذكر القولين في مسألة ذبائح أهل الكتاب: «وأما من حيث الحكم الشرعي، فالذي يظهر والله أعلم هو أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول: وهو أنها مباحة، وذلك لأن الأصل في ذبائح أهل الكتاب هو الحل، إلا إذا علمنا بأنهم قد ذبحوها على وجه غير مشروع .
وهذا الأصل أولى من الأصل الذي ذكره أصحاب القول الثاني وهو أن الأصل في الحيوانات التحريم» [شرح فقه النوازل- حكم اللحوم المستوردة - موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمة].
ويقول الشيخ صالح الأسمري: « وأما اللحوم؛ فاستدل بالدليل العقلي السابق عند القائلين بأن الأصل المنع في الأشياء، ولكن الذي عليه الأكثر والجمهور هو أن الأصل في اللحوم: الحل حتى يجيء المنع» [مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد البهية].
أدلة القائلين بأن
الأصل في اللحوم الحل
استدل القائلون بأن الأصل في اللحوم والذبائح الحل بالكتاب والسنة والمعقول.
أما دليل الكتاب:
أ - قوله تعالى: ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ [الأنعام: 119].
وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى فصل وبيَّن ما يحرم أكله من اللحوم والحيوان، كما في قوله عز وجل: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾ [المائدة: 3]. فما خرج عن هذا التفصيل فهو باق على أصله وهو الإباحة.
ب- قوله جل وعلا: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾ [الأنعام: 145].
وجه الدلالة من الآية: أن ما حرمه الله تعالى من اللحوم مستثنى في الآية مما أباحه من اللحوم المأكولة، فدل ذلك على أن الأصل هو الإباحة؛ يقول السمرقندي في تفسيره: «يعني ما لم يُبيِّن تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية» [بحر العلوم (2/86)].
ج- قوله سبحانه: ﴿إنما حرم عليكم الميتة﴾ [البقرة: 173].
وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى حصر المحرمات بأداة الاستثناء (إنما)، فدل على أن غير المستثنى باق على أصله وهو الإباحة.
أما دليل السنة:
ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ، أن قوماً قالوا: يا رسول الله: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا الله عليه وكُلُوه» [أخرجه البخاري في صحيحه (2/726، رقم 1952)].
وفي رواية عند أبي داود : أنهم قالوا: يا رسول الله! إن قوماً حديثوا عهد بالجاهلية يأتوننا بلُحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، أفنأكل منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا الله وكُلُوا» [رواه أبو داود في سننه (3/63، رقم 2831)].
ووجه الدلالة من الحديث: أنه لو كان الأصل في اللحوم التحريم، لقيل: لا تأكلوا حتى تعلموا قيام سبب الإباحة.
أما دليل العقل:
أ - أن اللحوم أشياء من جنس الموجود على الأرض، فهي داخلة في الإباحة؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة، كما أنها من المطعومات، والأصل في المطعومات الإباحة.
ب- أن الأصل في فعل المسلم والكتابي أنه محمول على الصحة، إلا إذا تبين خلافه، ومن ذلك التذكية، فلا يتكلف بالسؤال عن توفر الشروط ونحوها.
ج- أن كلام الفقهاء في تحريم أكل اللحم إنما هو في اللحم الذي يشك في ذكاته، ولم يعلم طريق حله. وتحريم اللحوم التي يشك في ذكاتها لا يدل على أن الأصل في اللحوم التحريم؛ كما لو اجتمع في الماء سبب طهارة، وسبب نجاسة؛ فإنه يحرم استعماله، ولا يدل ذلك على أن الأصل في المياه النجاسة.
اعتراضات على بعض الاستدلالات
أ - اعترض على استدلال القائلين بأن الأصل في اللحوم الإباحة بقوله تعالى: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾، وقوله تعالى: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾؛ بأن الله تعالى قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية على لسان نبيه محمد ﷺ، كتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ومن جملة ما فصله الشرع وورد ببيان حكمه تحريم اللحوم والذبائح التي تفقد شرط التذكية؛ فهي تدخل في جملة ما ورد النص بتحريمه؛ بدلالة قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم﴾؛ فقوله : ﴿إلا ما ذكيتم﴾؛ يدل على أن ما لم تتحقق فيه التذكية أو غلب على الظن حصولها، داخل في حكم ما سبق من أنواع اللحوم المحرمة، فدل ذلك على أنه رجع إلى الأصل وهو التحريم.
ب- وأما استدلالهم بحديث عائشة؛ فيجاب عليه من عدة وجوه:
الأول: أن الحديث ورد في حق قوم من المسلمين، إلا أنهم حديثو عهد بجاهلية، فخشي -ظناً- أنهم لم يسموا على ذبائحهم جهلاً منهم بمثل هذه الأحكام، أو نسياناً؛ نظراً لقرب عهدهم بجاهلية، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الظن لا قيمة له ما لم يتحقق أو يغلب.
الثاني: أن اشتراط التسمية في الذبح تنوزع في وجوبها؛ فذهب الشافعية إلى سنيتها وعدم وجوبها، وهو رواية عن مالك وأحمد.
الثالث: أن من قال بوجوب التسمية عند الذبح وهم الحنفية والمالكية والحنابلة؛ قالوا بأن من تركها سهواً حلت ذبيحته، والمنع إنما يكون في حق المتعمد. وهؤلاء المسؤول عنهم في حديث عائشة ربما وقع منهم السهو عن التسمية أو جهلوا حكمها، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم ذبائحهم، أو يقال: لا يضر الجهل بالتسمية وعدمها مع كونهم مسلمين، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فليسمّ هو عند أكلها ندباً لا وجوباً.
ج- أما استدلالهم بأن اللحوم من جنس الأشياء الداخلة في قاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة)، فيجاب عنه بأن كل شيء داخل تحت هذه القاعدة إذا خلا عن الدليل المبين لحكمه نصاً، بينما الذبائح وردت نصوصٌ تبيِّن وتفصل أحكامها من حيث الحلُّ والحُرمةُ، فتكون خارجة عن عموم هذه القاعدة.
د - أما استدلالهم بأن الحكم بالمنع من الأكل من الذبيحة إذا اشتبهت مذكاة بميتة لا يدل على أن الأصل في اللحوم التحريم؛ كما لو اختلط ماء طاهر بنجس فيمنع من استعمال الكل، ولا يقال بأن الأصل في الماء النجاسة.
فيجاب عنه بأن القول بأن الأصل في الماء الطهارة قاعدة دلت عليها النصوص الشرعية، وتطبيقها من الناحية العملية فيما لو اشتبه بوقوع النجاسة في الماء من عدمه؛ فلا يمنع هذا الاشتباه من استعمال الماء والتطهر به؛ لأن اليقين لا يزول بالشك؛ فهو باق على أصل الطهارة. وكذلك هنا بالنسبة للذبيحة لو اشتبه في كونها مذكاة أو غير مذكاة فيمنع من أكلها؛ لأن الأصل في الذبائح التحريم، واليقين لا يزول بالشك.
واعترض على الاستدلال بحديث عدي بن حاتم للدلالة على أن الأصل في اللحوم التحريم ، من وجهين:
أ - أنه في الصيد خاصة، فلا يستدل به على الذبائح لأنه ورد فيها نصوص أخرى تدل على إباحتها، كحديث عائشة، حيث أجرى النبي صلى الله عليه وسلم فيها الأمر على الأصل وهو الحل مع الشك في شرط الحل وهو التسمية.
ب- أن دلالة الحديث في بيان حكم ما يشك في تحقق سبب حله من عدمه، فينهى عنه لمقام الاشتباه، وهذا مما لا خلاف فيه، أما محل الخلاف فهو ما ليس فيه دليل؛ لا دليل إباحة ولا دليل تحريم.
وأجيب عن الاعتراض بما يلي :
أ - أن حديث عدي وإن كان في الصيد، إلا أنه فيما أباحه الله من الحيوان، فاجتمع هو والمذكاة من حيث أصل إباحة أكلها إذا توفر سبب حلها وهو التذكية أو الصيد، فإن شك في السبب، منع من أكلها بناء على أن الأصل في الميتة التحريم؛ فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل.[أحكام القرآن لابن العربي (2/645)، إحكام الأحكام لابن دقيق (ص479)، فتح الباري (9/602)]
ب- إن القول بأن ما لا دليل على إباحته ولا تحريمه من الذبائح باق على أصل الحل مندرج تحت قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، فكل ما لم يرد النص بتحريمه ولا تحليله فهو مباح، هذا القول يستثنى منه الذبائح واللحوم؛ فإنها لا تندرح تحت هذه القاعدة؛ لأن النصوص وردت ببيان حكمها من حيث الحل والإباحة، ودلت على أن الأصل فيها التحريم ما لم يتحقق سبب إباحتها وهو التذكية أو الصيد.
القول الراجح في المسألة
بعد العرض السابق لكلا القولين ، وأدلة كل منهما ، والاعتراضات الواردة على هذه الأدلة ، يظهر أن الراجح في المسألة هو القول بأن الأصل في اللحوم التحريم؛ وذلك للأمور التالية:
1) أن هذا القول هو القول الذي اتفق جمهور الفقهاء من أئمة المذاهب على الأخذ به واعتباره، ولم يخالفهم في ذلك أحد -فيما نعلم-، في حين أن القول بالحل هو اختيار بعض المعاصرين.
2) سلامة أدلة القائلين بأن الأصل في اللحوم الحرمة من الاعتراض، في حين أن القائلين بأن الأصل فيها الحل والإباحة لم تسلم أدلتهم من الاعتراض.
3) أن الشريعة الإسلامية إذا أحلت شيئاً بشروط؛ فإن هذا دليل على أن أصله التحريم، ولا يجوز أن يتعدى أو يستباح إلا به. [الاستذكار لابن عبد البر (5/254)].
يقول الإمام الخطابي في تقرير هذه القاعدة : «وأما الشيء إذا كان أصله الحظر وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة؛ كالفروج لا تحل إلا بعد نكاح أو ملك يمين، وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة، فإنه مهما شك في وجود تلك الشرائط وحصولها يقيناً على الصفة التي جعلت علماً للتحليل، كان باقياً على أصل الحظر والتحريم» [معالم السنن (3/57)].
وقال أيضاً. «والأصل أن الرخص تراعى فيها شرائطها التي وقعت لها الإباحة، فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي» [معالم السنن (4/135)].
4) أن إباحة الشرع لذبائح أهل الكتاب رخصة واستثناء من الأصل، وهو عدم جواز ذبيحة غير المسلم؛ فدل ذلك على أن الأصل في الذبيحة أو اللحم الحرمة، ويؤكد ذلك أن سائر أنواع طعام غير المسلمين باقية على أصل الإباحة من غير فرق بين الكتابي وغيره.
هذا ما تيسر جمعه من شتات هذه المسألة، راجياً منكم التعليق وإبداء الملاحظة حول ما تم عرضه فيها ، وفي انتظار ملاحظاتكم مع خالص الشكر والامتنان.
الموضوع الأصلي:
قاعدة الأصل في اللحوم والذبائح
مع تقدم الزمان وتطور وسائل الحياة، التجأت كثير من الدول الإسلامية إلى الاعتماد المباشر على البلاد الغربية في استيراد ما يلزمها من اللحوم والذبائح، وربما اعتمد الكثير منها على الأسلوب الغربي في الذبح، طلباً للمنافسة في العرض لتحقيق الربح المادي السريع، وتلبية لمتطلبات السوق وحاجاته، الأمر الذي أوقع كثيراً من الناس في الشك والريب، من جهة أن هذه اللحوم والذبائح هل هي مذكاة وفق القواعد والضوابط الشرعية أو لم يراع فيها الشروط الشرعية في ذلك؟
ومن خلال البحث والقراءة في هذه المسألة وجدنا أن كثيراً من الفقهاء يذكرون قاعدة مهمة في هذا الباب تنص على أن الأصل في اللحوم والذبائح التحريم حتى يتبين أو يغلب على الظن دليل الجواز، كما هو مذهب جمهور الفقهاء.
وفي المقابل نجد أن بعض المعاصرين يخالف هذا الأصل ويقول إن القول بأن الأصل في اللحوم الحل أولى من القول بأن الأصل فيها التحريم.
وقد استدل كل فريق من بما يراه من أدلة تساند قوله ومذهبه.
جمهور الفقهاء يرون أن
الأصل في اللحوم والذبائح التحريم
يرى جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة أن الأصل في لحوم وذبائح الحيوان مأكول اللحم التحريم، ما لم تتحقق شروط إباحته ، وهي:
1) أن يكون من حيوان يحل أكله؛ كالغنم والبقر والإبل، ونحوها مما ورد النص بحل أكله؛ فإن لم يعلم، فلا يحل.
2) أن يذكى الذكاة الشرعية بقطع الودجين، والبلعوم والمرئ.
3) أن يعلم من ذبحه بأن يكون مسلماً أو كتابياً.
ومما ورد من كلامهم في هذه المسألة ما يلي:
أ - مذهب الحنفية:
قال الكاساني الحنفي : « الحرمة في الحيوان المأكول لمكان الدم المسفوح وأنه لا يزول إلا بالذبح والنحر » [بدائع الصنائع (6/5672)].
وقال ابن عابدين : «وحرم حيوان من شأنه الذبح ما لم يذك» [حاشية ابن عابدين (6/492)].
ب- مذهب المالكية:
قال ابن العربي المالكي: «قال علماؤنا: الأصل في الحيوان التحريم، لا يحل إلا بالذكاة والصيد؛ فإذا ورد الشك في الصائد والذابح بقي على أصل التحريم» [أحكام القرآن (2/35)].
ويقول الإمام الشاطبي : « فالأصل في الأبضاع المنع إلا بالأسباب المشروعة، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة» [الموافقات (1/401)]
ج- مذهب الشافعية:
قال الإمام الخطابي : «البهيمة أصلها على التحريم حتى تتيقن وقوع الذكاة؛ فهي لا تستباح بالأمر المشكوك» [معالم السنن (4/282)].
وقال الغزالي: «القسم الأول : أن يكون التحريم معلوماً من قبل ثم يقع الشك في المحلل، فهذه شبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها، مثاله: أن يرمي إلى صيد فيجرحه ويقع في الماء، فيصادفه ميتاً، ولا يدري أنه مات بالغرق أو بالجرح، فهذا حرام؛ لأن الأصل التحريم» [إحياء علوم الدين (2/140)].
وقال الرافعي: «وليست اللحوم على الإباحة أيضاً؛ ألا ترى أنه لو ذبح المشرف على الموت وشك في أن حركته عند الذبح كانت حركة المذبوح أو حياة مستقرة، يغلب التحريم، ولك أن تقول في توجيه المنع على قاعدة اعتبار العلامات: إن فقدت العلامات ههنا فقد تعذر الاجتهاد، وإن وجدت فالعلامات إنما تعتمد عند تأييدها بالأصل لما سيأتي ولم توجد ههنا» [فتح العزيز شرح الوجيز (1/280)].
وقال النووي: «فيه بيان قاعدة مهمة وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه» [شرح صحيح مسلم (13/116)].
وقال أيضاً: «لو وجدنا شاة مذبوحة ولم ندر من ذبحها؛ فإن كان في بلد فيه من لا يحل ذكاته كالمجوس لم تحل، سواء تمحضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين؛ للشك في الذكاة المبيحة، والأصل التحريم، وإن لم يكن فيهم أحد منهم حلّت، والله أعلم» [المجموع شرح المهذب (9/8)].
وقال ابن دقيق العيد: «إن الأصل التحريم في الميتة، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل، وكذلك إذا شككنا أن الصيد مات بالرمي أو لوجود سبب آخر يجوز أن يحال عليه الموت لم يحل» [إحكام الأحكام (2/288)].
وقال السيوطي : «الفائدة الثانية: قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب شك طرأ على أصل حرام، وشك طرأ على أصل مباح، وشك لا يعرف أصله، فالأول مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحلّ حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأنها أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة» [الأشباه والنظائر (ص74)].
وقال أيضاً في معرض تمثيله لما يندرج تحت قاعدة (الأصل بقاء ما كان على ما كان) من الصور: «أسلم إليه في لحم فجاء به، فقال المسلم: هذا لحم ميتة أو مذكى مجوسي، وأنكر المسلم إليه؛ فالقول قول المسلم القابض، قطع به الزبيري في المسكت والهروي في الإشراف، والعبادي في آداب القضاء، قال: لأن الشاة في حال حياتها محرّمة، فيتمسك بأصل التحريم إلى أن يتحقق زواله» [الأشباه والنظائر (ص115)].
وقال زكريا الأنصاري: «ولا يصح شراء لحم مجهول الذكاة الشرعية بقرية يسكنها مجوس؛ لأن الأصل في الحيوان التحريم، فلا يزال إلا بيقين أو ظاهر، فإن كان غالب أهل البلد مسلمين صح شراؤه، فإنه يجوز أكله عملاً بالغالب والظاهر، ذكره في المجموع» [أسنى المطالب (2/41)].
وقال ابن حجر الهيتمي : « وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفّار وثنية، وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني، فهل يحلّ أكل تلك الشاة المذبوحة التي وجدت في تلك المحلة أم لا؟ فأجاب: بأنه حيث كان ببلد فيه مَن يحلّ ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني، ومَن لا يحلّ ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد، ورؤي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلاً، وشكّ هل ذبحها مَن يحلّ ذبحه لم تحلّ للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه » [الفتاوى الكبرى (1/45، 46)].
د - مذهب الحنابلة:
قال ابن قدامة المقدسي: «الأصل الحظر، والحل موقوف على شرط وهو التذكية من هو من أهل الذكاة أو صيده» المغني (13/18).
وقال ابن تيمية : «ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات» [مجموع الفتاوى (32/190)].
وقال أيضاً: : «والذي عليه عوام أهل العلم أن التحريم يقتضي الفساد؛ وذلك لأن الفروج محظورة قبل العقد، فلا تباح إلا بما أباحها الله سبحانه من النكاح أو الملك، كما أن اللحوم قبل التذكية حرام، فلا تباح إلا بما أباحه الله من التذكية، وهذا بيِّن» [الفتاوى الكبرى (3/314)].
وقال ابن القيم : « ثم النوع الثاني : استصحاب الوصف المُثْبِت للحُكم ، حتى يثبت خلافه ، وهو حجة ، كاستصحاب حكم الطهارة ، وحكم الحدث ، واستصحاب بقاء النكاح ، وبقاء المِلك ، وشغل الذمة بما تشغل به ، حتى يثبت خلاف ذلك ، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد (وإن وجدته غريقاً فلا تأكله ؛ فإنك لا تدري الماءُ قتله أو سهمك) ، وقوله (وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ؛ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على غيره) .
لمَّا كان الأصل في الذبائح : التحريم ، وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا : بقي الصيد على أصله في التحريم » [إعلام الموقعين (1/339، 340)].
وقال أيضاً: «إن باب الذبائح على التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة، لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه.
أحدها: تأييده الأصل الحاظر.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ورجعا إلى أصل التحريم» [أحكام أهل الذمة (1/538، 539)].
وقال ابن رجب الحنبلي : «وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم، ولهذا نهى النبي من أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه أو كلب غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره» [جامع العلوم والحكم (ص93)].
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في منظومة القواعد :
«والأصل في الأبضاع واللحوم والنفس والأموال للمعصوم
تحريمها حتى يجيء الحلُّ فافهم هداك الله ما يُمَلُّ»
ثم قال رحمه الله في شرحها:
«يعني أن الأصل في هذه الأشياء التحريم حتى نتيقن الحل.
فالأصل في الأبضاع التحريم، والأبضاع: وطء النساء، فلا يحل إلا بيقين الحل، إما بنكاح صحيح، أو ملك يمين، وكذلك اللحوم، الأصل فيها التحريم، حتى يتيقن الحل. ولهذا إذا اجتمع في الذبيحة سببان: مبيح ، ومحرِّم، غلِّب التحريم، فلا يحل المذبوح والمصيد» [رسالة في القواعد الفقهية - المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي - الفقه ( المجلد1/ص142)].
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: «الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها ممن أهل للتذكية، فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به, وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي, فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم, وهو: مجرى النفس, والمريء, وهو: مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم» [مجلة البحوث الإسلامية - الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد (6/130)].
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : «الأصل في الذبائح والذكاة التحريم حتى نعلم كيف وقع الذبح، وكيف وقعت الذكاة، وذلك لأن من شروط الحل أنه ذكي أو ذبح على وجه شرعي» [من فتاوى الصيد (ص26-27) إعداد : عبدالله الطيار].
أدلة القائلين بأن
الأصل في اللحوم التحريم
استدل القائلون بأن الأصل في اللحوم والذبائح التحريم بالكتاب والسنة والمعقول.
أما دليل الكتاب :
أ - قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم﴾ [المائدة: 3].
وجه الدلالة من الآية: أن ما لم تتحقق فيه الذكاة الشرعية فإنه باق على أصله وهو التحريم.
ب- قوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ [الأنعام: 121].
وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى نهى عن الأكل من الذبائح إذا لم تتحقق فيها الذكاة الشرعية؛ فدل ذلك على أن الأصل فيها التحريم وأنها لا تحل إلا بشرط التذكية.
وأما دليل السنة:
فما روى البخاري في صحيحه من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إذا أرسلتَ كلبكَ وسمَّيتَ فأمسَكَ وقتلَ فكُلْ، وإن أكلَ فلا تأكلْ؛ فإنما أمسكَ على نفسه، وإذا خالطَ كلاباً لم يُذكر اسمُ الله عليها فأمسكنَ وقتلنَ فلا تأكلْ؛ فإنك لا تدري أيها قتلْ، وإن رميتَ الصَّيدَ فوجدته بعد يومٍ أو يومينِ ليس به إلا أثر سهمكَ فكُلْ، وإن وقعَ في الماءِ فلا تأكُلْ» [رواه البخاري في صحيحه (5/2089، رقم 5167)].
وجه الدلالة من الحديث: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل من الذبيحة التي يشك في تحقق شروط تذكيتها الشرعية دليل على أن الأصل فيها التحريم ما لم تستكمل شروط إباحتها، فإذا لم تحقق هذه الشروط أو شك فيها ، رجع الحكم فيها إلى الأصل وهو التحريم.
أما دليل المعقول:
أ ) أن حل الذبيحة مبني على تحقق الذكاة على وجهها الشرعي، فإذا انتفت هذه الشروط أو شك في تحققها، فإنه لا يحل أكلها؛ فدل على أن الأصل فيها التحريم.
ب) أن دليل التحريم حاظر، ودليل القائلين بالإباحة مبيح، والقاعدة في اجتماع الحاظر والمبيح أن يقدم دليل الحظر على دليل الإباحة؛ لأنه أحوط وأبعد عن الشبهة.
من يقول إن
الأصل في اللحوم الحل والإباحة
ذهب بعض المعاصرين إلى خلاف ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فقالوا بأن الأصل في اللحوم والذبائح الحل والإباحة، ما يتبين خلاف ذلك.
وقد ادعى بعضهم أن هذا هو مذهب جمهور الفقهاء - وفيه نظر كما سبق من خلال العرض السابق لأقوال الجمهور-.
وممن ذهب إلى القول بأن الأصل الإباحة: الدكتور سعد الشثري، والدكتور سعد الخثلان، والشيخ صالح الأسمري.
ويقول الدكتور سعد الشثري في شرحه لمنظومة قواعد السعدي: « (والأصل في اللحوم التحريم) وهذا مذهب بعض الفقهاء، أن الأصل في اللحوم هو التحريم. ويستدلون على ذلك بحديث عدِي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم، ووجدت معه غيره فقتل، فلا تأكل فإنك لا تدري أيَّهما قتل) ، ويستدلون على ذلك: بأنه إذا اجتمع في نوع اللحم سبب مُبيح وسبب حاظر، غلب جانب الحظر. كما في البغل، وكما في الطير إذا صيد بالسهم، فوقع في الماء . وقد ورد في ذلك حديث في النسائي .
ويدل على: أن الأصل في اللحوم هو الجواز والحل، قوله سبحانه: ﴿قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾ الآية، فإنه دل على: أن الأصل هو الحل والجواز، وأن التحريم مستثنى. ويدل على ذلك: قوله جل وعلا: ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ ؛ فدل أن الأصل هو الحل والجواز في اللحوم المأكولة، وأن التحريم مستثنى .
ويدل عليه أيضاً قوله جل وعلا: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ ؛ فحصر المحرمات بأداة الاستثناء (إنما) وقوله جل وعلا: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾ الآية، فدل ذلك على أن الأصل في اللحوم هو الإباحة ...» [شرح منظومة القواعد الفقهية للشيخ السعدي].
ويقول الشيخ سعد الخثلان بعد أن ذكر القولين في مسألة ذبائح أهل الكتاب: «وأما من حيث الحكم الشرعي، فالذي يظهر والله أعلم هو أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول: وهو أنها مباحة، وذلك لأن الأصل في ذبائح أهل الكتاب هو الحل، إلا إذا علمنا بأنهم قد ذبحوها على وجه غير مشروع .
وهذا الأصل أولى من الأصل الذي ذكره أصحاب القول الثاني وهو أن الأصل في الحيوانات التحريم» [شرح فقه النوازل- حكم اللحوم المستوردة - موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمة].
ويقول الشيخ صالح الأسمري: « وأما اللحوم؛ فاستدل بالدليل العقلي السابق عند القائلين بأن الأصل المنع في الأشياء، ولكن الذي عليه الأكثر والجمهور هو أن الأصل في اللحوم: الحل حتى يجيء المنع» [مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد البهية].
أدلة القائلين بأن
الأصل في اللحوم الحل
استدل القائلون بأن الأصل في اللحوم والذبائح الحل بالكتاب والسنة والمعقول.
أما دليل الكتاب:
أ - قوله تعالى: ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ [الأنعام: 119].
وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى فصل وبيَّن ما يحرم أكله من اللحوم والحيوان، كما في قوله عز وجل: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾ [المائدة: 3]. فما خرج عن هذا التفصيل فهو باق على أصله وهو الإباحة.
ب- قوله جل وعلا: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾ [الأنعام: 145].
وجه الدلالة من الآية: أن ما حرمه الله تعالى من اللحوم مستثنى في الآية مما أباحه من اللحوم المأكولة، فدل ذلك على أن الأصل هو الإباحة؛ يقول السمرقندي في تفسيره: «يعني ما لم يُبيِّن تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية» [بحر العلوم (2/86)].
ج- قوله سبحانه: ﴿إنما حرم عليكم الميتة﴾ [البقرة: 173].
وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى حصر المحرمات بأداة الاستثناء (إنما)، فدل على أن غير المستثنى باق على أصله وهو الإباحة.
أما دليل السنة:
ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ، أن قوماً قالوا: يا رسول الله: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا الله عليه وكُلُوه» [أخرجه البخاري في صحيحه (2/726، رقم 1952)].
وفي رواية عند أبي داود : أنهم قالوا: يا رسول الله! إن قوماً حديثوا عهد بالجاهلية يأتوننا بلُحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، أفنأكل منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا الله وكُلُوا» [رواه أبو داود في سننه (3/63، رقم 2831)].
ووجه الدلالة من الحديث: أنه لو كان الأصل في اللحوم التحريم، لقيل: لا تأكلوا حتى تعلموا قيام سبب الإباحة.
أما دليل العقل:
أ - أن اللحوم أشياء من جنس الموجود على الأرض، فهي داخلة في الإباحة؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة، كما أنها من المطعومات، والأصل في المطعومات الإباحة.
ب- أن الأصل في فعل المسلم والكتابي أنه محمول على الصحة، إلا إذا تبين خلافه، ومن ذلك التذكية، فلا يتكلف بالسؤال عن توفر الشروط ونحوها.
ج- أن كلام الفقهاء في تحريم أكل اللحم إنما هو في اللحم الذي يشك في ذكاته، ولم يعلم طريق حله. وتحريم اللحوم التي يشك في ذكاتها لا يدل على أن الأصل في اللحوم التحريم؛ كما لو اجتمع في الماء سبب طهارة، وسبب نجاسة؛ فإنه يحرم استعماله، ولا يدل ذلك على أن الأصل في المياه النجاسة.
اعتراضات على بعض الاستدلالات
أ - اعترض على استدلال القائلين بأن الأصل في اللحوم الإباحة بقوله تعالى: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾، وقوله تعالى: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾؛ بأن الله تعالى قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية على لسان نبيه محمد ﷺ، كتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ومن جملة ما فصله الشرع وورد ببيان حكمه تحريم اللحوم والذبائح التي تفقد شرط التذكية؛ فهي تدخل في جملة ما ورد النص بتحريمه؛ بدلالة قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم﴾؛ فقوله : ﴿إلا ما ذكيتم﴾؛ يدل على أن ما لم تتحقق فيه التذكية أو غلب على الظن حصولها، داخل في حكم ما سبق من أنواع اللحوم المحرمة، فدل ذلك على أنه رجع إلى الأصل وهو التحريم.
ب- وأما استدلالهم بحديث عائشة؛ فيجاب عليه من عدة وجوه:
الأول: أن الحديث ورد في حق قوم من المسلمين، إلا أنهم حديثو عهد بجاهلية، فخشي -ظناً- أنهم لم يسموا على ذبائحهم جهلاً منهم بمثل هذه الأحكام، أو نسياناً؛ نظراً لقرب عهدهم بجاهلية، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الظن لا قيمة له ما لم يتحقق أو يغلب.
الثاني: أن اشتراط التسمية في الذبح تنوزع في وجوبها؛ فذهب الشافعية إلى سنيتها وعدم وجوبها، وهو رواية عن مالك وأحمد.
الثالث: أن من قال بوجوب التسمية عند الذبح وهم الحنفية والمالكية والحنابلة؛ قالوا بأن من تركها سهواً حلت ذبيحته، والمنع إنما يكون في حق المتعمد. وهؤلاء المسؤول عنهم في حديث عائشة ربما وقع منهم السهو عن التسمية أو جهلوا حكمها، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم ذبائحهم، أو يقال: لا يضر الجهل بالتسمية وعدمها مع كونهم مسلمين، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فليسمّ هو عند أكلها ندباً لا وجوباً.
ج- أما استدلالهم بأن اللحوم من جنس الأشياء الداخلة في قاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة)، فيجاب عنه بأن كل شيء داخل تحت هذه القاعدة إذا خلا عن الدليل المبين لحكمه نصاً، بينما الذبائح وردت نصوصٌ تبيِّن وتفصل أحكامها من حيث الحلُّ والحُرمةُ، فتكون خارجة عن عموم هذه القاعدة.
د - أما استدلالهم بأن الحكم بالمنع من الأكل من الذبيحة إذا اشتبهت مذكاة بميتة لا يدل على أن الأصل في اللحوم التحريم؛ كما لو اختلط ماء طاهر بنجس فيمنع من استعمال الكل، ولا يقال بأن الأصل في الماء النجاسة.
فيجاب عنه بأن القول بأن الأصل في الماء الطهارة قاعدة دلت عليها النصوص الشرعية، وتطبيقها من الناحية العملية فيما لو اشتبه بوقوع النجاسة في الماء من عدمه؛ فلا يمنع هذا الاشتباه من استعمال الماء والتطهر به؛ لأن اليقين لا يزول بالشك؛ فهو باق على أصل الطهارة. وكذلك هنا بالنسبة للذبيحة لو اشتبه في كونها مذكاة أو غير مذكاة فيمنع من أكلها؛ لأن الأصل في الذبائح التحريم، واليقين لا يزول بالشك.
واعترض على الاستدلال بحديث عدي بن حاتم للدلالة على أن الأصل في اللحوم التحريم ، من وجهين:
أ - أنه في الصيد خاصة، فلا يستدل به على الذبائح لأنه ورد فيها نصوص أخرى تدل على إباحتها، كحديث عائشة، حيث أجرى النبي صلى الله عليه وسلم فيها الأمر على الأصل وهو الحل مع الشك في شرط الحل وهو التسمية.
ب- أن دلالة الحديث في بيان حكم ما يشك في تحقق سبب حله من عدمه، فينهى عنه لمقام الاشتباه، وهذا مما لا خلاف فيه، أما محل الخلاف فهو ما ليس فيه دليل؛ لا دليل إباحة ولا دليل تحريم.
وأجيب عن الاعتراض بما يلي :
أ - أن حديث عدي وإن كان في الصيد، إلا أنه فيما أباحه الله من الحيوان، فاجتمع هو والمذكاة من حيث أصل إباحة أكلها إذا توفر سبب حلها وهو التذكية أو الصيد، فإن شك في السبب، منع من أكلها بناء على أن الأصل في الميتة التحريم؛ فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل.[أحكام القرآن لابن العربي (2/645)، إحكام الأحكام لابن دقيق (ص479)، فتح الباري (9/602)]
ب- إن القول بأن ما لا دليل على إباحته ولا تحريمه من الذبائح باق على أصل الحل مندرج تحت قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، فكل ما لم يرد النص بتحريمه ولا تحليله فهو مباح، هذا القول يستثنى منه الذبائح واللحوم؛ فإنها لا تندرح تحت هذه القاعدة؛ لأن النصوص وردت ببيان حكمها من حيث الحل والإباحة، ودلت على أن الأصل فيها التحريم ما لم يتحقق سبب إباحتها وهو التذكية أو الصيد.
القول الراجح في المسألة
بعد العرض السابق لكلا القولين ، وأدلة كل منهما ، والاعتراضات الواردة على هذه الأدلة ، يظهر أن الراجح في المسألة هو القول بأن الأصل في اللحوم التحريم؛ وذلك للأمور التالية:
1) أن هذا القول هو القول الذي اتفق جمهور الفقهاء من أئمة المذاهب على الأخذ به واعتباره، ولم يخالفهم في ذلك أحد -فيما نعلم-، في حين أن القول بالحل هو اختيار بعض المعاصرين.
2) سلامة أدلة القائلين بأن الأصل في اللحوم الحرمة من الاعتراض، في حين أن القائلين بأن الأصل فيها الحل والإباحة لم تسلم أدلتهم من الاعتراض.
3) أن الشريعة الإسلامية إذا أحلت شيئاً بشروط؛ فإن هذا دليل على أن أصله التحريم، ولا يجوز أن يتعدى أو يستباح إلا به. [الاستذكار لابن عبد البر (5/254)].
يقول الإمام الخطابي في تقرير هذه القاعدة : «وأما الشيء إذا كان أصله الحظر وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة؛ كالفروج لا تحل إلا بعد نكاح أو ملك يمين، وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة، فإنه مهما شك في وجود تلك الشرائط وحصولها يقيناً على الصفة التي جعلت علماً للتحليل، كان باقياً على أصل الحظر والتحريم» [معالم السنن (3/57)].
وقال أيضاً. «والأصل أن الرخص تراعى فيها شرائطها التي وقعت لها الإباحة، فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي» [معالم السنن (4/135)].
4) أن إباحة الشرع لذبائح أهل الكتاب رخصة واستثناء من الأصل، وهو عدم جواز ذبيحة غير المسلم؛ فدل ذلك على أن الأصل في الذبيحة أو اللحم الحرمة، ويؤكد ذلك أن سائر أنواع طعام غير المسلمين باقية على أصل الإباحة من غير فرق بين الكتابي وغيره.
هذا ما تيسر جمعه من شتات هذه المسألة، راجياً منكم التعليق وإبداء الملاحظة حول ما تم عرضه فيها ، وفي انتظار ملاحظاتكم مع خالص الشكر والامتنان.
الموضوع الأصلي: