Sepadan dalam Pernikahan Wahbah Zuhaili
Sepadan dalam Pernikahan (3) menurut madzhab empat ditulis oleh Wahbah Zuhaili dalam Al-Fiqh Al-Islami wa Adillatuhu
Sepadan dalam Pernikahan (3) menurut madzhab empat ditulis oleh Syekh Wahbah Zuhaili dalam Al-Fiqh Al-Islami wa Adillatuhu, hlm. 9/216
الكتاب : الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
المؤلف : أ.د. وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ
أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله
بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الفَصْلُ الخامس: الكفاءة في الزَّواج
معناها وآراء الفقهاء في اشتراطها، نوع شرط الكفاءة، صاحب الحق في الكفاءة، من تطلب في جانبه الكفاءة، ما تكون فيه الكفاءة أو أوصاف الكفاءة، وتبحث في مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ معنى الكفاءة وآراء الفقهاء في اشتراطها :
الكفاءة لغة: المماثلة والمساواة، يقال: فلان كفء لفلان أي مساو له. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (1) أي تتساوى، فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع. ومنه قوله تعالى: {ولم يكن له كُفُواً أحد} [الإخلاص:4/112] أي لا مثيل له.
وفي اصطلاح الفقهاء: المماثلة بين الزوجين دفعاً للعار في أمور مخصوصة، وهي عند المالكية: الدين، والحال (أي السلامة من العيوب التي توجب لها الخيار). وعند الجمهور: الدين، والنسب، والحرية، والحرفة (أو الصناع)، وزاد الحنفية والحنابلة: اليسار (أو المال) (2) .
ويراد منها تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين، بحيث لا تعير المرأة أو أولياؤها بالزوج بحسب العرف.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي كرم الله وجهه.
(2) الدسوقي: 248/2، كشاف القناع: 72/5، مغني المحتاج: 164/3، اللباب: 12/3، حاشية ابن عابدين: 436/2.
(9/216)
وأما آراء الفقهاء في اشتراط الكفاءة، فلهم رأيان (1) :
الرأي الأولي ـ رأى بعضهم كالثوري، والحسن البصري، والكرخي من الحنفية: أن الكفاءة ليست شرطاً أصلاً، لا شرط صحة للزواج ولا شرط لزوم، فيصح الزواج ويلزم سواء أكان الزوج كفئاً للزوجة أم غير كفء، واستدلوا بما يأتي:
1ً - قوله صلّى الله عليه وسلم : «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى» (2) فهو يدل على المساواة المطلقة، وعلى عدم اشتراط الكفاءة، ويدل له قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] وقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً} [الفرقان:54/25] وحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» (3).
ورد عليه بأن معناه أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأنهم لا يتفاضلون إلا بالتقوى، أما فيما عداها من الاعتبارات الشخصية التي تقوم على أعراف الناس وعاداتهم، فلا شك في أن الناس يتفاوتون فيها، فهناك تفاضل في الرزق والثروة: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16] وهناك تفاضل في العلم يقتضي التكريم: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11/58] وما يزال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية، وهو مقتضى الفطرة الإنسانية، والشريعة لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه.
__________
(1) فتح القدير: 417/2 وما بعدها، البدائع: 317/2، تبيين الحقائق: 128/2، الدسوقي مع الشرح الكبير: 248/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 164/3، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 71/5 وما بعدها، المغني: 480/6 وما بعدها.
(2) أخرجه ابن لال بلفظ قريب عن سهل بن سعد «الناس كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى» (سبل السلام: 129/3).
(3) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح عن أبي نضرة ( مجمع الزوائد: 266/3).
(9/217)
2ً - الحديث المتقدم: وهو أن بلالاً رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «قل لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني» أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة،ولو كانت معتبرة لما أمر؛ لأن التزويج من غير كفء غير مأمور به.
ويؤكده أن سالم مولى امرأة من الأنصار زوجه أبو حذيفة من ابنة أخيه: هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة (1) . وكذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة قرشية هي فاطمة أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأول أن تتزوج أسامة قائلاً لها: «انكحي أسامة» (2) ، وروى الدارقطني أن أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال.
ويدل له: «أن أبا هند حجم النبي صلّى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه» (3) . ورد على الأحاديث بمعارضتها بأحاديث أخرى تتطلب الكفاءة فتكون محمولة على الندب والأفضل، وبأن التسوية بين العرب وغيرهم إنما هو في أحكام الآخرة، أما في الدنيا فقد ظهر فضل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدنيا.
3ً - الدماء متساوية في الجنايات، فيقتل الشريف بالوضيع، والعالم بالجاهل، فيقاس عليها عدم الكفاءة في الزواج، فإن كانت الكفاءة غير معتبرة في الجنايات، فلا تكون معتبرة في الزواج بالأولى.
ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن التساوي في القصاص في مسائل الجنايات، إنما طلب لمصلحة الناس وحفظ حق الحياة، حتى لا يتجرأ ذو الجاه أو النسب على قتل من دونه ممن لا يكافئه. أما الكفاءة في الزواج فلتحقيق مصالح الزوجين من دوام العشرة مع المودة والألفة بينهما، ولا تتحقق تلك المصالح إلا باشتراط الكفاءة.
__________
(1) رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة (نيل الأوطار: 128/6).
(2) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس (سبل السلام: 129/3).
(3) رواه أبو داود عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 128/6).
(9/218)
الرأي الثاني - رأى جمهور الفقهاء (منهم المذاهب الأربعة): أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج، لا شرط صحة فيه، عملاً بالأدلة التالية من السنة والمعقول:
1ً - السنة: حديث علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفئاً» (1) .
وحديث جابر: «لا تنُكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجوهن إلا الأولىاء، ولا مهردون عشرة دراهم» (2) .
وحديث عائشة: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء» (3)
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم عن علي (نيل الأوطار: 128/6).
(2) رواه الدارقطني عن جابر بن عبد الله ، وفيه مبشر بن عبد الله متروك الحديث (نصب الراية: 196/3).
(3) روي من حديث عائشة، ومن حديث أنس، ومن حديث عمر بن الخطاب، من طرق عديدة كلها ضعيفة (نصب الراية: 197/3).
(9/219)
وحديث ابن عمر: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل إلا حائك أو حجام» (1) .وحديث عائشة وعمر: «لأمنعن تزوّج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء» (2) .
وحديث أبي حاتم المزني: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (3) وفيه دليل على اعتبار الكفاءة.
وحديث بريدة المتقدم الذي جعل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار لفتاة زوجها أبوها ابن أخيه ليرفع بها خسيسته (4) .
وحديث «العلماء ورثة الأنبياء» (5) وحديث «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقُهوا» (6) .
قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، فقد خيرها النبي صلّى الله عليه وسلم ، لما لم يكن زوجها كفئاً لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبداً.
وقال الكمال بن الهمام (7) : هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، فتصبح حجة بالتضافر والشواهد، وترتفع إلى مرتبة الحسن، لحصول الظن بصحة المعنى، وثبوته عنه صلّى الله عليه وسلم ، وفي هذا كفاية.
2 - المعقول: وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما؛ لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس، فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل، لا من جانب المرأة؛ لأن الزوج لا يتأثر بعدم الكفاءة عادة، وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن زوجها كفئاً لها، لم تستمر الرابطة الزوجية، وتتفكك عُرى المودة بينهما، ولم يكن للزوج صاحب القوامة تقدير واحترام. وكذلك أولىاء المرأة يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم، ويعيرون به، فتختل روابط المصاهرة أو تضعف، ولم تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية، ولا الثمرات المقصودة من الزوجية.
وهذا الرأي هو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية كمصر وسورية وليبيا. والذي يظهر لي رجحان مذهب الإمام مالك في هذا الشأن، وهو اعتبار الكفاءة فقط في الدين والحال، أي السلامة من العيوب التي توجب للمرأة الخيار في الزواج، وليس الحال بمعنى الحسب والنسب وإنما يندب ذلك فقط، والسبب هو ضعف أحاديث الجمهور، ولأن الدليل الأقوى للجمهور وهو المعقول يعتمد على العرف، فإذا كان العرف بين الناس كمافي عصرنا الحاضر هو عدم النظر إلى الكفاءة، وأصبح مبدأ المساواة هو الأساس في التعامل، وزالت المعاني القبلية والتمييز الطبقي بين الناس، فلم يعد هناك مسوغ للكفاءة.
__________
(1) رواه الحاكم عن عبد الله بن عمر، وهو حديث منقطع (نصب الراية، نيل الأوطار، المكان السابق).
(2) رواه الدارقطني (نيل الأوطار: 127/6).
(3) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وعده أبو داود في المراسيل (نيل الأوطار: 127/6).
(4) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث ابن بريدة (نيل الأوطار: 127/6).
(5) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في العلل (نيل الأوطار: 128/6).
(6) متفق عليه (رياض الصالحين: ص 164).
(7) فتح القدير: 417/2 وما بعدها).
(9/220)
المبحث الثاني ـ نوع شرط الكفاءة :
هل الكفاءة شرط صحة أو شرط لزوم؟
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية (1) على أن الكفاءة شرط لزوم في الزواج، وليست شرطاً في صحة النكاح، فإذا تزوجت المرأة غير كفء، كان العقد صحيحاً، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه، دفعاً لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرط صحة لما صح، حتى ولو أسقط الأولياء حقهم في الاعتراض؛ لأن شرط الصحة لا يسقط بالإسقاط.
وأخذ القانون السوري (م 26) باعتبار كون الكفاءة شرط لزوم، ونص هذه المادة: «يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة» ونصت المادة (27) على أنه: «إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً، لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح» وهذا هو المختار لدى واضعي قانون الأحوال الشخصية في مصر.
تفصيل رأي الحنفية في شرط الكفاءة :
الكفاءة عند الحنفية في الجملة تعد شرط لزوم (2) ، لكن المفتى به عند المتأخرين أن الكفاءة شرط لصحة الزواج في بعض الحالات، وشرط لنفاذه في بعض الحالات، وشرط للزومه في حالات أخرى.
__________
(1) البدائع: 317/2، الدسوقي: 249/2، مغني المحتاج: 164/3، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 71/2، المغني: 480/6، فتح القدير: 419/2، اللباب: 12/3.
(2) الدر المختار: 437/2.
(9/221)
أما الحالات التي تكون الكفاءة فيها شرطاً لصحة الزواج، فهي ما يأتي (1) :
1ً - إذا زوجت المرأة البالغة العاقلة نفسها من غير كفء أوبغبن فاحش، وكان لهاولي عاصب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد، لم يصح الزواج أصلاً، لا لازماً ولا موقوفاً على الرضا بعد البلوغ.
2ً - إذا زوج غير الأصل (الأب والجد) أو الفرع (الابن) عديم الأهلية أو ناقصها، أي المجنون والمجنونة أو الصغير والصغيرة من غير كفء، فإن الزواج فاسد؛ لأن ولاية هؤلاء منوطة بالمصلحة، ولا مصلحة في التزويج بغير الكفء.
3ً - إذا زوج الأب أو الابن المعروف بسوء الاختيار (2) عديم الأهلية أو ناقصها، من غير كفء أو بغبن فاحش،لم يصح النكاح اتفاقاً. وكذا لو كان سكران، فزوج المرأة من فاسق أو شرير أو فقير أو ذي حرفة دنيئة، لظهور سوء اختياره، وانعدام المصلحة في هذا الزواج.
ويلزم النكاح ولو بغبن فاحش بنقص مهرها وزيادة مهره، أو زوجها بغير كفء إن كان الولي المزوج أباً أو جداً أو ابن المجنونة إذا لم يعرف منهما سوء الاختيار.
وتكون الكفاءة شرطاً لنفاذ الزواج :
إذا وكلت المرأة البالغة العاقلة شخصاً في زواجها، سواء أكان ولياً أم أجنبياً عنها، فزوَّجها بغير كفء، كان العقد موقوفاً على إجازتها؛ لأن الكفاءة حق للمرأة ولأوليائها، فإذا لم يكن الزوج كفئاً لها، لا ينفذ العقد إلا برضاها (3) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 418/2-420، 436.
(2) سوء الاختيار والرأي: أن يكون الشخص فاسقاً أوماجناً لا يبالي بما يصنع، أو يكون سفيهاً طماعاً (رد المحتار لابن عابدين: 418/2).
(3) الدر المختار ورد المحتار: 436/2.
(9/222
وتكون الكفاءة شرطاً للزوم الزواج في ظاهر الرواية:
إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها من كفء، كان الزواج لازماً، وليس لوليها حق الاعتراض وطلب الفسخ، فإن زوجت نفسها من غير كفء، كان لوليها العاصب حق الاعتراض (1) .
يتبين من هذا أن الكفاءة تشبه عند الحنفية ولاية الزواج، ففي حالات قد تكون الولاية شرطاً في صحة الزواج، وقد تكون شرطاً في نفاذه، وقد تكون شرطاً في لزومه.
ومن المعلوم أن شروط لزوم الزواج عند الحنفية أربعة هي باختصار:
1ً - أن يكون الولي في تزويج الصغير والصغيرة هو الأب أو الجد. أما غيرهما كالأخ والعم إذا زوج الصغار، فلا يلزم الزواج في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويكون لهم الخيار بعد البلوغ. وقال أبو يوسف: يلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء، فلا يثبت للصغار الخيار بعد البلوغ (2) .
2ً - أن يكون الزوج خالياً من العيوب الجنسية، كما يتبين في بحث الطلاق.
3ً - أن تزوج المرأة نفسها بمهر المثل، فإذا زوجت نفسها بغبن فاحش، لم يلزم العقد، وكان للأولىاء عند أبي حنيفة حق الاعتراض، حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها؛ لأن الأولياء يفتخرون بغلاء المهور ويتعيرون بنقصانه، فأشبه الكفاءة. وقال الصاحبان: ليس لهم ذلك؛ لأن ما زاد على العشرة دراهم حقها، ومن أسقط حقه لا يعترض عليه (3) .
4ً - أن يكون الزوج كفئاً للمرأة، فإن زوجت المرأة نفسها من غير كفء لها، كان للأولياء حق الاعتراض، ويفسخ القاضي العقد إن ثبت له عدم كفاءة الزوج دفعاً للعار. وهذا متفق عليه بين المذاهب كما تقدم.
__________
(1) المرجع السابق، البدائع: 317/2 وما بعدها.
(2) البدائع: 315/2.
(3) فتح القدير: 424/2، البدائع: 322/2، الدر المختار: 445/2-446.
(9/223
المبحث الثالث ـ صاحب الحق في الكفاءة :
اتفق الفقهاء (1) على أن الكفاءة حق لكل من المرأة وأوليائها، فإذا تزوجت المرأة بغير كفء، كان لأوليائها حق طلب الفسخ، وإذا زوجها الولي بغير كفء، كان لها أيضاً الفسخ؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه، فأشبه خيار البيع، ولما روي: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقالت: إن أبي زوجني ابنَ أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء (2) . والحاصل: أن المرأة إن تركت الكفاءة فحق الولي باق، وبالعكس.
ترتيب الحق بين الأولياء ووقت سقوط حق الاعتراض :
يثبت هذا الحق عند الحنفية للأقرب من الأولياء العصبة فالأقرب، فإذا لم يرضوا فلهم أن يفرقوا بين المرأة وزوجها، ما لم تلد، أو تحمل حملاً ظاهراً في ظاهر الرواية، وإذا زوجها الولي بغير كفء برضاها، لزم النكاح، وإذا رضي الأولياء فقد أسقطوا حق أنفسهم بالاعتراض والفسخ.
وقال المالكية: للأولياء الفسخ ما لم يدخل الزوج بالمرأة، فإن دخل فلا فسخ. والاعتراض حق مشترك لكل الأولياء، فلو زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها من غير رضا الباقين، لم يلزم النكاح، وهذا خلافاً للحنفية والشافعية.
__________
(1) البدائع: 318/2، الدر المختار ورد المحتار: 436/2، 443، 424/2، اللباب: 12/3، الشرح الكبير: 249/2، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 72/5، المغني: 481/6، مغني المحتاج: 164/3.
(2) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه (نيل الأوطار: 127/6).
(9/224)
وقال الشافعية: لو زوجها الولي الأقرب برضاها، فليس للأبعد اعتراض؛ إذ لا حق له الآن في التزويج. وإذا تساوى الأولياء في الدرجة، فزوجها أحدهم برضاها دون رضاهم، لم يصح الزواج؛ لأن لهم حقاً في الكفاءة، فاعتبر رضاهم كرضا المرأة. ولو زوجها الولي غير كفء برضاها، أو زوجها بعض الأولياء المستوين في الدرجة برضاها ورضا الباقين، صح الزواج.
وقال الحنابلة: يملك الاعتراض والفسخ الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم بالزوج، ومع رضا الزوجة أيضاً دفعاً لما يلحقه من العار؛ لأن الكفاءة عندهم كما جاء في كشاف القناع حق للمرأة والأولياء جميعهم، فلو زوج الأب بنته بغير كفء برضاها، فللإخوة الفسخ؛ لأن العار في تزويج من ليس بكفء عليهم أجمعين.
ولو زالت الكفاءة بعد العقد، فللزوجة عندهم الفسخ فقط دون أوليائها؛ لأن حق الأولياء في ابتداء العقد لا في استدامته، وهذا بخلاف رأي المذاهب الأخرى، فإن الكفاءة تعتبر عند الجمهور عند ابتداء العقد، فلا يضر زوالها بعده، فلو كان وقت العقد كفئاً، ثم صار غير كفء، لم يفسخ العقد.
رضا بعض الأولياء المستوين في الدرجة دون البعض :
إن تعدد الأولياء الأقارب كالإخوة الأشقاء، ورضي بعضهم بالزواج، ولم يرض الآخرون، كان رضا البعض عند أبي حنيفة ومحمد مسقطاً لحق الآخرين؛ لأن هذا حق واحد لا يتجزأ؛ لأن سببه وهو القرابة لا يقبل التجزئة، والقاعدة المقررة أن إسقاط بعض مالا يتجزأ إسقاط لكله، فإذا أسقط أحد الأولياء حقه، سقط حق الباقين، قياساً على حق القصاص الثابت لجماعة، فإنه حق لا يقبل التجزئة، فإذا عفا بعضهم سقط حق الباقين. وأجيب عنه بأن القصاص لا يثبت لكل واحد كاملاً، فإذا سقط بعضه تعذر استيفاؤه.
وقال الجمهور (وهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف وزفر): إن رضي بعض الأولياء المتساوين، لم يسقط حق الآخرين في الاعتراض؛ لأن الكفاءة حق مشترك ثبت للكل، وإذا أسقط أحد الشريكين حق نفسه، لا يسقط حق صاحبه، كالدين المشترك.
وأجيب عنه: بأن قياس الكفاءة على الدين المشترك قياس مع الفارق؛ لأن الدين حق يقبل التجزئة، وحق الكفاءة لا يقبل التجزئة.
ولا فرق عند الحنابلة بين أن يكون الأولياء متساوين في الدرجة أم متفاوتين؛ لأن الكفاءة عندهم حق الكل.
(9/225)
المبحث الرابع : من تطلب الكفاءة في جانبه :
يرى جمهور الفقهاء أن الكفاءة تطلب للنساء لا للرجال، بمعنى أن الكفاءة تعد في جانب الرجال للنساء، فهو حق في صالح المرأة لا في صالح الرجل، فيشترط أن يكون الرجل مماثلاً أو مقارباً لها في أمور الكفاءة. ولا يشترط في المرأة أن تكون مساوية للرجل أو مقاربة له، بل يصح أن تكون أقل منه في أمور الكفاءة؛ لأن الرجل لا يعير بزوجة أدنى حالاً منه، أما المرأة وأقاربها فيعيرون بزوج أقل منها منزلة (1) . لكن يستثنى من هذا الأصل مسألتان تشترط فيهما الكفاءة من جانب المرأة، ذكرتا سابقاً وهما:
الأولى ـ أن يزوج غير الأب أو الجد عديم الأهلية أو ناقصها، أويزوجه الأب أو الجد الذي عرف قبل العقد بسوء الاختيار، فإنه يشترط لصحة هذا الزواج أن تكون الزوجة مكافئة له، احتياطاً لمصلحة الزواج، وإلا لم يصح الزواج.
الثانية ـ أن يوكل الرجل غيره في تزويجه وكالة مطلقة، فإنه يشترط لنفاذ العقد على الموكل في رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد أن تكون الزوجة كفئاً له.
المبحث الخامس ـ ما تكون فيه الكفاءة، أو أوصاف الكفاءة :
اختلف الفقهاء في خصال الكفاءة، فهي عند المالكية اثنان: وهما الدين والحال، أي السلامة من العيوب المثبتة للخيار، لا الحال بمعنى الحسب والنسب.
وعند الحنفية ستة: هي الدين والإسلام والحرية والنسب والمال والحرفة (2) .
__________
(1) البدائع: 320/2، الدسوقي: 249/2، مغني المحتاج: 164/3، كشاف القناع: 72/5.
(2) نظم العلامة الحموي ما تعتبر فيه الكفاءة، فقال:
إن الكفاءة في النكاح تكون في ..... ..... ست لها بيت بديع قد ضبط
نسب وإسلام كذلك حرفة ..... ...... حرية وديانة مال فقط
(9/226)
ولا تكون الكفاءة عندهم في السلامة من العيوب التي يفسخ بها البيع كالجذام والجنون والبرص، والبخَر والدفَر إلا عند محمد في الثلاثة الأولى.
وعند الشافعية خمسة: هي الدين أو العفة، والحرية، والنسب، والسلامة من العيوب المثبتة للخيار، والحرفة.
وعند الحنابلة خمسة أيضاً: هي الدين، والحرية، والنسب، واليسار (المال)، والصناعة أي الحرفة (1) .
فهم متفقون على الكفاءة في الدين، واتفق غير المالكية على الكفاءة في الحرية والنسب والحرفة، واتفق المالكية والشافعية على خصلة السلامة من العيوب المثبتة للخيار، واتفق الحنفية في ظاهر الرواية والحنابلة على خصلة المال، وانفرد الحنفية بخصلة إسلام الأصول.
__________
(1) البدائع: 318/2-320، الدر المختار ورد المحتار: 437/2-445، فتح القدير: 419/2-424، اللباب: 13/3، الشرح الكبير: 249/2 وما بعدها، المهذب: 39/2، مغني المحتاج: 165/3-167، كشاف القناع: 72/5 وما بعدها، المغني: 482/6-486.
(9/227)
1 - الديانة، أو العفة أو التقوى: المراد بها الصلاح والاستقامة على أحكام الدين، فليس الفاجر والفاسق كفئاً لعفيفة أو صالحة بنت صالح، أو مستقيمة، لها ولأهلها تدين وخلق حميد، سواء أكان معلناً فسقه، أم غير معلن أي لا يجهر بالفسق لكن يشهد عليه أنه فعل كذا من المفسقات؛ لأن الفاسق مردود الشهادة والرواية، وهو نقص في إنسانيته، ولأن المرأة تعير بفسق الزوج أكثر ما تعير بضعة نسبه، فلا يكون كفئاً لامرأة عدل، بالاتفاق ما عدا محمد بن الحسن، لقوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً، لا يستوون} [السجدة:18/32] وقوله سبحانه: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور:3/24] ونوقش الاستدلال بالآيتين، أما الأولى فهي في حق المؤمن والكافر، وأما الثانية فهي منسوخة، والأصح الاستدلال بحديث أبي حاتم المزني المتقدم: « إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» .
وقال محمد: إن الفسق لا يمنع الكفاءة، إلا إذا كان صاحبه متهتكاً يصفع ويسخر منه،أو يخرج إلى الأسواق سكران؛ لأن الفسق من أحكام الآخرة، فلا تبتنى عليه أحكام الدنيا.
وهل يكون الفاسق كفئاً لفاسقة بنت صالح، قال بعض الحنفية: لا يكون الفاسق كفئاً لها، وقال ابن عابدين: إن المفهوم من كلامهم اعتبار صلاح الكل أي الفتاة والأب، وإن من اقتصر على صالحة أو صلاح آبائها نظر إلى الغالب من أن صلاح الولد والوالد متلازمان، فعلى هذا لا يكون الفاسق كفئاً لصالحة بنت صالح، بل يكون كفئاً لفاسقة بنت فاسق، وكذا لفاسقة بنت صالح، لأن ما يلحقه من العار ببنته أكثر من العار بصهره. وإذا كانت صالحة بنت فاسق، فزوجت نفسها من فاسق، فليس لأبيها حق الاعتراض؛ لأنه مثله، وهي قد رضيت به.
(9/228)
2 - الإسلام: شرط انفرد به الحنفية بالنسبة لغير العرب، خلافاً للجمهور، والمراد به إسلام الأصول أي الآباء، فمن له أبوان مسلمان كفء لمن كان له آباء في الإسلام، ومن له أب واحد في الإسلام لا يكون كفئاً لمن له أبوان في الإسلام؛ لأن تمام النسب بالأب والجد. وألحق أبو يوسف الواحد بالمثنى.
ومن أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لمن له أب واحد في الإسلام؛ لأن التفاخر فيما بين الموالي (غير العرب) بالإسلام.
ودليل الحنفية على هذه الخصلة: أن تعريف الشخص يكون كاملاً بالأب والجد، فإذا كان الأب والجد مسلماً، كان نسبه إلى الإسلام كاملاً.
ولا تعتبر هذه الخصلة إلا في غير العرب؛ لأنهم بعد إسلامهم صار فخرهم بالإسلام، وهو شرفهم الذي قام مقام النسب. أما العرب فلا يعتبر فيهم التكافؤ في إسلام الآباء؛ لأن العرب يتفاخرون بأنسابهم، ولا يتفاخرون بإسلام أصولهم، فالعربي المسلم الذي ليس له أب مسلم كفء للعربية المسلمة التى لها أب وأجداد مسلمون.
(9/229)
3 - الحرية: شرط في الكفاءة عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فلا يكون العبد ولو مبعضاً كفئاً لحرة ولو كانت عتيقة؛ لأنه منقوص بالرق، ممنوع من التصرف في كسبه، غير مالك له، ولأن الأحرار بمصاهرة الأرقاء كما يعيرون بمصاهرة من دونهم في النسب والحسب.
واشترط الحنفية والشافعية أيضاً حرية الأصل، فمن كان أحد آبائه رقيقاً ليس كفئاً لحر الأصل، أو لمن كان أبوها رقيقاً ثم أعتق، ومن كان له أبوان في الحرية ليس كفئاً لمن كان له أب واحد في الحرية.
وأضاف الحنفية والشافعية أن العتيق ليس كفئاً لحرة أصلية؛ لأن الأحرار يعيرون بمصاهرة العتقاء، كما يعيرون بمصاهرة الأرقاء.
وقال الحنابلة: العتيق كله كفء للحرة.
وأما المالكية فلم يشترطوا الحرية في الكفاءة، وقالوا: في كفاءة العبد للحرة، وعدم كفاءته لها على الأرجح تأويلان: المذهب أنه ليس بكفء، والراجح أنه كفء، وهو الأحسن؛ لأنه قول ابن القاسم.
وقال الدسوقي: والظاهر التفصيل: فما كان من جنس الأبيض فهو كفء؛ لأن الرغبة فيه أكثر من الأحرار، وبه الشرف في عرف مصرنا، وما كان من جنس الأسود فليس بكفء؛ لأن النفوس ـ على حد تعبيره ـ تنفر منه، ويقع به الذم للزوجة. وهذا حكاية لعرف الناس في عصره، وليس أمراً مقرراً في الشرع.
لذا أرى أن هذا الرأي خاص بالدسوقي، فإن مبادئ الشريعة تناقض هذا القول إذ لا تفرقة في أحكامها بين الناس بسبب اللون، وما اعتمده من عرف مصر هو عرف فاسد، لمصادمته مبادئ الشريعة، أو أنه مجرد أهواء نفسية وميول خاصة لا يقرها الشرع؛ لأن الناس سواء في دين الله تعالى.
(9/230
4 - النسب: وسماه الحنابلة: المنصب.
المراد بالنسب: صلة الإنسان بأصوله من الآباء والأجداد. أما الحسب: فهو الصفات الحميدة التي يتصف بها الأصول أو مفاخر الآباء، كالعلم والشجاعة والجود والتقوى. ووجود النسب لا يستلزم الحسب، ولكن وجود الحسب يستلزم النسب.والمقصود من النسب أن يكون الولد معلوم الأب، لا لقيطاً أو مولى إذ لا نسب له معلوم. ولم يعتبر المالكية الكفاءة في النسب، أما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية) فقد اعتبروا النسب في الكفاءة، لكن خصص الحنفية النسب في الزواج من العرب؛ لأنهم الذين عنوا بحفظ أنسابهم، وتفاخروا بها، وحدث التعيير بينهم فيها.
أما العجم فلم يعنوا بأنسابهم ولم يفتخروا بها، ولذا اعتبر فيهم الحرية والإسلام. والأصح عند الحنفية أن العجمي لا يكون كفئاً للعربية ولو كان عالماً أو سلطاناً.
وبناء على هذا الرأي: لا يكون العجمي كفئاً للعربية، لقول عمر: «لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من الأكفاء» (1) ، ولأن الله اصطفى العرب على غيرهم، ولأن العرب فضلت الأمم برسول الله صلّى الله عليه وسلم .
وقريش عند الحنفية وفي رواية عن أحمد بعضهم أكفاء بعض، وبقية العرب بعضهم أكفاء بعض، واستثنى بعضهم بني باهلة لخستهم. ودليلهم قول ابن عباس: قريش بعضهم أكفاء بعض.
ويرى الشافعية وفي رواية أخرى عن أحمد: أن غير الهاشمي والمطلبي ليس
__________
(1) رواه الخلال والدارقطني.
(9/231)
كفئاً لباقي قريش كبني عبد شمس ونوفل، وإن كانا أخوين لهاشم، لخبر: «إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (1) .
ويتفق الجمهور على أن قريشاً وهم أولاد النضر بن كنانة أفضل نسباً من سائر العرب، فالقرشية لا يكافئها إلا قرشي مثلها، والقرشي كفء لكل عربية. وأن المرأة العربية غير القرشية يكافئها أي عربي من أي قبيلة كانت، ولكن لا يكافئها غير العربي أي العجمي.
ودليل الجمهور حديث: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام» (2) .
والحق أن اعتبار النسب في الكفاءة ليس صحيحاً، والصحيح قول المالكية؛ لأن مزية الإسلام الجوهرية هي الدعوة إلى المساواة، ومحاربة التمييز العرقي أو العنصري، ودعوات الجاهلية القبلية والنسبية، ولأن انتشار الإسلام بين الناس غير العرب إنما كان أساساً لهذه المزية، وإعلان حجة الوداع واضح وهو أن الناس جميعاً أبناء آدم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.
أما الحديث الذي اعتمد عليه الجمهور فهو ضعيف، لذا فإن تفضيل قريش على سائر العرب، ثم تفضيل العرب على العجم، لم يدل عليه شيء من السنة، بل ورد في السنة خلافه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان، وزوج أبا العاص بن
__________
(1) رواه الترمذي عن واثلة، وهو صحيح.
(2) رواه الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر، ولكنه حديث منقطع (نصب الراية: 197/3، سبل السلام: 128/3).
(9/232
ربيع زينب، وهما من بني عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وزوج النبي بنت عمته زينب وهي قرشية زيد بن حارثة، وهو من الموالي، وتزوج أسامة ابن زيد فاطمة بنت قيس وهي من قريش، بعد أن طلقها زوجها: أبو عمر بن حفص بن المغيرة، فأخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» (1) .
وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي، وتزوج المصعب بن الزبير أختها سكينة، وتزوجها أيضاً عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنة الزبير بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وزوج أبو بكر أخته أم فروة الأشعث بن قيس، وهما كنديان (2) .
ولأن العجم والموالي بعضهم لبعض أكفاء، وإن تفاضلوا، وشرف بعضهم على بعض، وكذلك العرب.
وإذا حرص العرب على أنسابهم وتفاخروا بها، فإن غير العرب قد حرصوا على أنسابهم، وتتعير المرأة منهم إذا تزوجت من لا يساويها في الحسب والنسب.
5 - المال أو اليسار: المراد به القدرة على المهر والنفقة على الزوجة، لا الغنى والثراء، فلا يكون المعسر كفئاً لموسرة. وحدد بعض الحنفية هذه القدرة على نفقة شهر، وصحح بعضهم الاكتفاء بالقدرة عليها بالكسب.
واشترط اليسار في الكفاءة الحنفية والحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الحديث السابق لفاطمة بنت قيس: «أما معاوية فصعلوك لا مال له» ، ولأن الناس
__________
(1) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس (سبل السلام: 129/3).
(2) المغني: 483/6 وما بعدها.
(9/233)
يتفاخرون بالمال أكثر من التفاخر بالنسب، ولأن الموسرة تتضرر في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولاده، ولهذا ملكت الفسخ بإعساره بالنفقة، ولأن عدم اليسار نقص في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب.
وقال الشافعية في الأصح والمالكية: لا يعد اليسار في خصال الكفاءة؛ لأن المال ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر.
والراجح لدي هو هذا الرأي؛ لأن الغنى لا دوام له، والمال غاد ورائح، والرزق مقسوم منوط بالكسب، والفقر شرف في الدين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» (1) .
6 - المهنة أو الحرفة أو الصناعة :
والمراد بها العمل الذي يمارسه الإنسان لكسب رزقه وعيشه، ومنه الوظيفة في الحكومة.
وذكر الجمهور غير المالكية الحرفة في خصال الكفاءة، بأن تكون حرفة الزوج أو أهله مساوية أو مقاربة لحرفة الزوجة أو أهلها. فلا يكون صاحب حرفة دنيئة كالحجام والحائك والكسَّاح والزبال والحارس والراعي والفقَّاط كفئآً لبنت صاحب صناعة جليلة أو رفيعة كالتاجر والبزاز، أي الذي يتجر في البَزّ وهو القماش، والخياط، ولا تكون بنت التاجر والبزاز كفئاً لبنت العالم والقاضي نظراً للعرف فيه. وأما أتباع الظلمة فأخسّ من الكل. وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض؛ لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة، ولا نقيصة أعظم من الكفر.
والمعول عليه في تصنيف الحرف هو العرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة، فقد تكون الحرفة دنيئة في زمن، ثم تصبح شريفة في زمن آخر. وقد تكون الحرفة وضيعة في بلد، وتكون رفيعة في بلد آخر.
ولم يذكر المالكية الحرفة من خصال الكفاءة؛ لأنها ليست بنقص في الدين، ولا هي وصف لازم، كالمال، فأشبه كل منهما الضعف والمرض والعافية والصحة. وهذا هو الراجح لدي.
__________
(1) رواه الترمذي من حديث أنس، وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري (تخريج أحاديث الإحياء للعراقي: 167/4).
(9/234
7 - السلامة من العيوب المثبتة للخيار في النكاح: كالجنون والجذام والبرص. اعتبرها المالكية والشافعية من خصال الكفاءة، فمن كان به عيب منها رجلاً أو امرأة ليس كفئاً للسليم من العيوب؛ لأن النفس تعاف صحبة من به بعضها، ويختل بها مقصود النكاح.
ولم يعتبر الحنفية والحنابلة السلامة من العيوب من شروط الكفاءة، ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون أوليائها؛ لأن الضرر مختص بها، ولوليها منعها من نكاح المجذوم والأبرص والمجنون. وهذا الرأي هو الأولى؛ لأن خصال الكفاءة حق لكل من المرأة والأولياء.
هذه هي خصال الكفاءة، أما ما عداها كالجمال والسن والثقافة والبلد والعيوب الأخرى غير المثبتة للخيار في الزواج كالعمى والقطع وتشوه الصورة، فليست معتبرة، فالقبيح كفء للجميل، والكبير كفء للصغير، والجاهل كفء للمثقف أو المتعلم، والقروي كفء للمدني، والمريض كفء للسليم.
لكن الأولى مراعاة التقارب بين هذه الأوصاف، وبخاصة السن والثقافة؛ لأن وجودهما أدعى لتحقيق الوفاق والوئام بين الزوجين، وعدمهما يحدث بلبلة واختلافاً مستعصياً، لاختلاف وجهات النظر، وتقديرات الأمور، وتحقيق هدف الزواج، وإسعاد الطرفين.
الكفاءة في القانون : إن خصال الكفاءة المطلوبة عند الفقهاء روعي فيها عرف المجتمعات الماضية ، فكل ما أدى إلى الإضرار بسمعة المرأة و أوليائها ، كانت الكفاءة فيه شرطاً لازوم العقد .
واليوم ينبغي أن يعتبر العرف الحاضر أيضاً، فإنه زال اعتبار كفاءة النسب والمال ونحوهما. لذا نص القانون السوري على ما يلي:
(م 26) : يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة.
(م 27): إذا تزوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح.
(9/235)
(م 28): العبرة في الكفاءة لعرف البلد.
(م 29): الكفاءة حق خاص للمرأة وللولي.
(م 30): يسقط حق الكفاءة لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة.
(م 31): تراعى الكفاءة عند العقد، فلا يؤثر زوالها بعده.
(م 32): إذا اشترطت الكفاءة حين العقد، أوأخبر الزوج أنه كفء، ثم تبين أنه غير كفء كان لكل من الولي والزوجة طلب فسخ العقد.
ويلاحظ أن هذه الأحكام يتفق أغلبها مع مذهب الحنفية، فالمادة الأولى في أن الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، أو من الجانبين، والثانية لتقرير أن الكفاءة شرط لزوم، لا شرط صحة، والثالثة مراعاة مبنى الكفاءة في الأصل وهو العرف، والرابعة كون الكفاءة حقاً لكل من المرأة والولي، والخامسة تحديد وقت سقوط حق الكفاءة عملاً بمشهور مذهب الحنفية، والسادسة وقت مراعاة الكفاءة وهو عند العقد، لا بعده، والسابعة التغرير بالكفاءة عند الاشتراط أو الإخبار بها.
(9/236)
الكتاب : الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
المؤلف : أ.د. وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ
أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله
بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الفَصْلُ الخامس: الكفاءة في الزَّواج
معناها وآراء الفقهاء في اشتراطها، نوع شرط الكفاءة، صاحب الحق في الكفاءة، من تطلب في جانبه الكفاءة، ما تكون فيه الكفاءة أو أوصاف الكفاءة، وتبحث في مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ معنى الكفاءة وآراء الفقهاء في اشتراطها :
الكفاءة لغة: المماثلة والمساواة، يقال: فلان كفء لفلان أي مساو له. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (1) أي تتساوى، فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع. ومنه قوله تعالى: {ولم يكن له كُفُواً أحد} [الإخلاص:4/112] أي لا مثيل له.
وفي اصطلاح الفقهاء: المماثلة بين الزوجين دفعاً للعار في أمور مخصوصة، وهي عند المالكية: الدين، والحال (أي السلامة من العيوب التي توجب لها الخيار). وعند الجمهور: الدين، والنسب، والحرية، والحرفة (أو الصناع)، وزاد الحنفية والحنابلة: اليسار (أو المال) (2) .
ويراد منها تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين، بحيث لا تعير المرأة أو أولياؤها بالزوج بحسب العرف.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي كرم الله وجهه.
(2) الدسوقي: 248/2، كشاف القناع: 72/5، مغني المحتاج: 164/3، اللباب: 12/3، حاشية ابن عابدين: 436/2.
(9/216)
وأما آراء الفقهاء في اشتراط الكفاءة، فلهم رأيان (1) :
الرأي الأولي ـ رأى بعضهم كالثوري، والحسن البصري، والكرخي من الحنفية: أن الكفاءة ليست شرطاً أصلاً، لا شرط صحة للزواج ولا شرط لزوم، فيصح الزواج ويلزم سواء أكان الزوج كفئاً للزوجة أم غير كفء، واستدلوا بما يأتي:
1ً - قوله صلّى الله عليه وسلم : «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى» (2) فهو يدل على المساواة المطلقة، وعلى عدم اشتراط الكفاءة، ويدل له قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] وقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً} [الفرقان:54/25] وحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» (3).
ورد عليه بأن معناه أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأنهم لا يتفاضلون إلا بالتقوى، أما فيما عداها من الاعتبارات الشخصية التي تقوم على أعراف الناس وعاداتهم، فلا شك في أن الناس يتفاوتون فيها، فهناك تفاضل في الرزق والثروة: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16] وهناك تفاضل في العلم يقتضي التكريم: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11/58] وما يزال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية، وهو مقتضى الفطرة الإنسانية، والشريعة لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه.
__________
(1) فتح القدير: 417/2 وما بعدها، البدائع: 317/2، تبيين الحقائق: 128/2، الدسوقي مع الشرح الكبير: 248/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 164/3، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 71/5 وما بعدها، المغني: 480/6 وما بعدها.
(2) أخرجه ابن لال بلفظ قريب عن سهل بن سعد «الناس كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى» (سبل السلام: 129/3).
(3) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح عن أبي نضرة ( مجمع الزوائد: 266/3).
(9/217)
2ً - الحديث المتقدم: وهو أن بلالاً رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «قل لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني» أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة،ولو كانت معتبرة لما أمر؛ لأن التزويج من غير كفء غير مأمور به.
ويؤكده أن سالم مولى امرأة من الأنصار زوجه أبو حذيفة من ابنة أخيه: هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة (1) . وكذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة قرشية هي فاطمة أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأول أن تتزوج أسامة قائلاً لها: «انكحي أسامة» (2) ، وروى الدارقطني أن أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال.
ويدل له: «أن أبا هند حجم النبي صلّى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه» (3) . ورد على الأحاديث بمعارضتها بأحاديث أخرى تتطلب الكفاءة فتكون محمولة على الندب والأفضل، وبأن التسوية بين العرب وغيرهم إنما هو في أحكام الآخرة، أما في الدنيا فقد ظهر فضل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدنيا.
3ً - الدماء متساوية في الجنايات، فيقتل الشريف بالوضيع، والعالم بالجاهل، فيقاس عليها عدم الكفاءة في الزواج، فإن كانت الكفاءة غير معتبرة في الجنايات، فلا تكون معتبرة في الزواج بالأولى.
ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن التساوي في القصاص في مسائل الجنايات، إنما طلب لمصلحة الناس وحفظ حق الحياة، حتى لا يتجرأ ذو الجاه أو النسب على قتل من دونه ممن لا يكافئه. أما الكفاءة في الزواج فلتحقيق مصالح الزوجين من دوام العشرة مع المودة والألفة بينهما، ولا تتحقق تلك المصالح إلا باشتراط الكفاءة.
__________
(1) رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة (نيل الأوطار: 128/6).
(2) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس (سبل السلام: 129/3).
(3) رواه أبو داود عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 128/6).
(9/218)
الرأي الثاني - رأى جمهور الفقهاء (منهم المذاهب الأربعة): أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج، لا شرط صحة فيه، عملاً بالأدلة التالية من السنة والمعقول:
1ً - السنة: حديث علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفئاً» (1) .
وحديث جابر: «لا تنُكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجوهن إلا الأولىاء، ولا مهردون عشرة دراهم» (2) .
وحديث عائشة: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء» (3)
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم عن علي (نيل الأوطار: 128/6).
(2) رواه الدارقطني عن جابر بن عبد الله ، وفيه مبشر بن عبد الله متروك الحديث (نصب الراية: 196/3).
(3) روي من حديث عائشة، ومن حديث أنس، ومن حديث عمر بن الخطاب، من طرق عديدة كلها ضعيفة (نصب الراية: 197/3).
(9/219)
وحديث ابن عمر: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل إلا حائك أو حجام» (1) .وحديث عائشة وعمر: «لأمنعن تزوّج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء» (2) .
وحديث أبي حاتم المزني: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (3) وفيه دليل على اعتبار الكفاءة.
وحديث بريدة المتقدم الذي جعل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار لفتاة زوجها أبوها ابن أخيه ليرفع بها خسيسته (4) .
وحديث «العلماء ورثة الأنبياء» (5) وحديث «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقُهوا» (6) .
قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، فقد خيرها النبي صلّى الله عليه وسلم ، لما لم يكن زوجها كفئاً لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبداً.
وقال الكمال بن الهمام (7) : هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، فتصبح حجة بالتضافر والشواهد، وترتفع إلى مرتبة الحسن، لحصول الظن بصحة المعنى، وثبوته عنه صلّى الله عليه وسلم ، وفي هذا كفاية.
2 - المعقول: وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما؛ لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس، فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل، لا من جانب المرأة؛ لأن الزوج لا يتأثر بعدم الكفاءة عادة، وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن زوجها كفئاً لها، لم تستمر الرابطة الزوجية، وتتفكك عُرى المودة بينهما، ولم يكن للزوج صاحب القوامة تقدير واحترام. وكذلك أولىاء المرأة يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم، ويعيرون به، فتختل روابط المصاهرة أو تضعف، ولم تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية، ولا الثمرات المقصودة من الزوجية.
وهذا الرأي هو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية كمصر وسورية وليبيا. والذي يظهر لي رجحان مذهب الإمام مالك في هذا الشأن، وهو اعتبار الكفاءة فقط في الدين والحال، أي السلامة من العيوب التي توجب للمرأة الخيار في الزواج، وليس الحال بمعنى الحسب والنسب وإنما يندب ذلك فقط، والسبب هو ضعف أحاديث الجمهور، ولأن الدليل الأقوى للجمهور وهو المعقول يعتمد على العرف، فإذا كان العرف بين الناس كمافي عصرنا الحاضر هو عدم النظر إلى الكفاءة، وأصبح مبدأ المساواة هو الأساس في التعامل، وزالت المعاني القبلية والتمييز الطبقي بين الناس، فلم يعد هناك مسوغ للكفاءة.
__________
(1) رواه الحاكم عن عبد الله بن عمر، وهو حديث منقطع (نصب الراية، نيل الأوطار، المكان السابق).
(2) رواه الدارقطني (نيل الأوطار: 127/6).
(3) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وعده أبو داود في المراسيل (نيل الأوطار: 127/6).
(4) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث ابن بريدة (نيل الأوطار: 127/6).
(5) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في العلل (نيل الأوطار: 128/6).
(6) متفق عليه (رياض الصالحين: ص 164).
(7) فتح القدير: 417/2 وما بعدها).
(9/220)
المبحث الثاني ـ نوع شرط الكفاءة :
هل الكفاءة شرط صحة أو شرط لزوم؟
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية (1) على أن الكفاءة شرط لزوم في الزواج، وليست شرطاً في صحة النكاح، فإذا تزوجت المرأة غير كفء، كان العقد صحيحاً، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه، دفعاً لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرط صحة لما صح، حتى ولو أسقط الأولياء حقهم في الاعتراض؛ لأن شرط الصحة لا يسقط بالإسقاط.
وأخذ القانون السوري (م 26) باعتبار كون الكفاءة شرط لزوم، ونص هذه المادة: «يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة» ونصت المادة (27) على أنه: «إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً، لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح» وهذا هو المختار لدى واضعي قانون الأحوال الشخصية في مصر.
تفصيل رأي الحنفية في شرط الكفاءة :
الكفاءة عند الحنفية في الجملة تعد شرط لزوم (2) ، لكن المفتى به عند المتأخرين أن الكفاءة شرط لصحة الزواج في بعض الحالات، وشرط لنفاذه في بعض الحالات، وشرط للزومه في حالات أخرى.
__________
(1) البدائع: 317/2، الدسوقي: 249/2، مغني المحتاج: 164/3، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 71/2، المغني: 480/6، فتح القدير: 419/2، اللباب: 12/3.
(2) الدر المختار: 437/2.
(9/221)
أما الحالات التي تكون الكفاءة فيها شرطاً لصحة الزواج، فهي ما يأتي (1) :
1ً - إذا زوجت المرأة البالغة العاقلة نفسها من غير كفء أوبغبن فاحش، وكان لهاولي عاصب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد، لم يصح الزواج أصلاً، لا لازماً ولا موقوفاً على الرضا بعد البلوغ.
2ً - إذا زوج غير الأصل (الأب والجد) أو الفرع (الابن) عديم الأهلية أو ناقصها، أي المجنون والمجنونة أو الصغير والصغيرة من غير كفء، فإن الزواج فاسد؛ لأن ولاية هؤلاء منوطة بالمصلحة، ولا مصلحة في التزويج بغير الكفء.
3ً - إذا زوج الأب أو الابن المعروف بسوء الاختيار (2) عديم الأهلية أو ناقصها، من غير كفء أو بغبن فاحش،لم يصح النكاح اتفاقاً. وكذا لو كان سكران، فزوج المرأة من فاسق أو شرير أو فقير أو ذي حرفة دنيئة، لظهور سوء اختياره، وانعدام المصلحة في هذا الزواج.
ويلزم النكاح ولو بغبن فاحش بنقص مهرها وزيادة مهره، أو زوجها بغير كفء إن كان الولي المزوج أباً أو جداً أو ابن المجنونة إذا لم يعرف منهما سوء الاختيار.
وتكون الكفاءة شرطاً لنفاذ الزواج :
إذا وكلت المرأة البالغة العاقلة شخصاً في زواجها، سواء أكان ولياً أم أجنبياً عنها، فزوَّجها بغير كفء، كان العقد موقوفاً على إجازتها؛ لأن الكفاءة حق للمرأة ولأوليائها، فإذا لم يكن الزوج كفئاً لها، لا ينفذ العقد إلا برضاها (3) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 418/2-420، 436.
(2) سوء الاختيار والرأي: أن يكون الشخص فاسقاً أوماجناً لا يبالي بما يصنع، أو يكون سفيهاً طماعاً (رد المحتار لابن عابدين: 418/2).
(3) الدر المختار ورد المحتار: 436/2.
(9/222
وتكون الكفاءة شرطاً للزوم الزواج في ظاهر الرواية:
إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها من كفء، كان الزواج لازماً، وليس لوليها حق الاعتراض وطلب الفسخ، فإن زوجت نفسها من غير كفء، كان لوليها العاصب حق الاعتراض (1) .
يتبين من هذا أن الكفاءة تشبه عند الحنفية ولاية الزواج، ففي حالات قد تكون الولاية شرطاً في صحة الزواج، وقد تكون شرطاً في نفاذه، وقد تكون شرطاً في لزومه.
ومن المعلوم أن شروط لزوم الزواج عند الحنفية أربعة هي باختصار:
1ً - أن يكون الولي في تزويج الصغير والصغيرة هو الأب أو الجد. أما غيرهما كالأخ والعم إذا زوج الصغار، فلا يلزم الزواج في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويكون لهم الخيار بعد البلوغ. وقال أبو يوسف: يلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء، فلا يثبت للصغار الخيار بعد البلوغ (2) .
2ً - أن يكون الزوج خالياً من العيوب الجنسية، كما يتبين في بحث الطلاق.
3ً - أن تزوج المرأة نفسها بمهر المثل، فإذا زوجت نفسها بغبن فاحش، لم يلزم العقد، وكان للأولىاء عند أبي حنيفة حق الاعتراض، حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها؛ لأن الأولياء يفتخرون بغلاء المهور ويتعيرون بنقصانه، فأشبه الكفاءة. وقال الصاحبان: ليس لهم ذلك؛ لأن ما زاد على العشرة دراهم حقها، ومن أسقط حقه لا يعترض عليه (3) .
4ً - أن يكون الزوج كفئاً للمرأة، فإن زوجت المرأة نفسها من غير كفء لها، كان للأولياء حق الاعتراض، ويفسخ القاضي العقد إن ثبت له عدم كفاءة الزوج دفعاً للعار. وهذا متفق عليه بين المذاهب كما تقدم.
__________
(1) المرجع السابق، البدائع: 317/2 وما بعدها.
(2) البدائع: 315/2.
(3) فتح القدير: 424/2، البدائع: 322/2، الدر المختار: 445/2-446.
(9/223
المبحث الثالث ـ صاحب الحق في الكفاءة :
اتفق الفقهاء (1) على أن الكفاءة حق لكل من المرأة وأوليائها، فإذا تزوجت المرأة بغير كفء، كان لأوليائها حق طلب الفسخ، وإذا زوجها الولي بغير كفء، كان لها أيضاً الفسخ؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه، فأشبه خيار البيع، ولما روي: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقالت: إن أبي زوجني ابنَ أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء (2) . والحاصل: أن المرأة إن تركت الكفاءة فحق الولي باق، وبالعكس.
ترتيب الحق بين الأولياء ووقت سقوط حق الاعتراض :
يثبت هذا الحق عند الحنفية للأقرب من الأولياء العصبة فالأقرب، فإذا لم يرضوا فلهم أن يفرقوا بين المرأة وزوجها، ما لم تلد، أو تحمل حملاً ظاهراً في ظاهر الرواية، وإذا زوجها الولي بغير كفء برضاها، لزم النكاح، وإذا رضي الأولياء فقد أسقطوا حق أنفسهم بالاعتراض والفسخ.
وقال المالكية: للأولياء الفسخ ما لم يدخل الزوج بالمرأة، فإن دخل فلا فسخ. والاعتراض حق مشترك لكل الأولياء، فلو زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها من غير رضا الباقين، لم يلزم النكاح، وهذا خلافاً للحنفية والشافعية.
__________
(1) البدائع: 318/2، الدر المختار ورد المحتار: 436/2، 443، 424/2، اللباب: 12/3، الشرح الكبير: 249/2، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 72/5، المغني: 481/6، مغني المحتاج: 164/3.
(2) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه (نيل الأوطار: 127/6).
(9/224)
وقال الشافعية: لو زوجها الولي الأقرب برضاها، فليس للأبعد اعتراض؛ إذ لا حق له الآن في التزويج. وإذا تساوى الأولياء في الدرجة، فزوجها أحدهم برضاها دون رضاهم، لم يصح الزواج؛ لأن لهم حقاً في الكفاءة، فاعتبر رضاهم كرضا المرأة. ولو زوجها الولي غير كفء برضاها، أو زوجها بعض الأولياء المستوين في الدرجة برضاها ورضا الباقين، صح الزواج.
وقال الحنابلة: يملك الاعتراض والفسخ الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم بالزوج، ومع رضا الزوجة أيضاً دفعاً لما يلحقه من العار؛ لأن الكفاءة عندهم كما جاء في كشاف القناع حق للمرأة والأولياء جميعهم، فلو زوج الأب بنته بغير كفء برضاها، فللإخوة الفسخ؛ لأن العار في تزويج من ليس بكفء عليهم أجمعين.
ولو زالت الكفاءة بعد العقد، فللزوجة عندهم الفسخ فقط دون أوليائها؛ لأن حق الأولياء في ابتداء العقد لا في استدامته، وهذا بخلاف رأي المذاهب الأخرى، فإن الكفاءة تعتبر عند الجمهور عند ابتداء العقد، فلا يضر زوالها بعده، فلو كان وقت العقد كفئاً، ثم صار غير كفء، لم يفسخ العقد.
رضا بعض الأولياء المستوين في الدرجة دون البعض :
إن تعدد الأولياء الأقارب كالإخوة الأشقاء، ورضي بعضهم بالزواج، ولم يرض الآخرون، كان رضا البعض عند أبي حنيفة ومحمد مسقطاً لحق الآخرين؛ لأن هذا حق واحد لا يتجزأ؛ لأن سببه وهو القرابة لا يقبل التجزئة، والقاعدة المقررة أن إسقاط بعض مالا يتجزأ إسقاط لكله، فإذا أسقط أحد الأولياء حقه، سقط حق الباقين، قياساً على حق القصاص الثابت لجماعة، فإنه حق لا يقبل التجزئة، فإذا عفا بعضهم سقط حق الباقين. وأجيب عنه بأن القصاص لا يثبت لكل واحد كاملاً، فإذا سقط بعضه تعذر استيفاؤه.
وقال الجمهور (وهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف وزفر): إن رضي بعض الأولياء المتساوين، لم يسقط حق الآخرين في الاعتراض؛ لأن الكفاءة حق مشترك ثبت للكل، وإذا أسقط أحد الشريكين حق نفسه، لا يسقط حق صاحبه، كالدين المشترك.
وأجيب عنه: بأن قياس الكفاءة على الدين المشترك قياس مع الفارق؛ لأن الدين حق يقبل التجزئة، وحق الكفاءة لا يقبل التجزئة.
ولا فرق عند الحنابلة بين أن يكون الأولياء متساوين في الدرجة أم متفاوتين؛ لأن الكفاءة عندهم حق الكل.
(9/225)
المبحث الرابع : من تطلب الكفاءة في جانبه :
يرى جمهور الفقهاء أن الكفاءة تطلب للنساء لا للرجال، بمعنى أن الكفاءة تعد في جانب الرجال للنساء، فهو حق في صالح المرأة لا في صالح الرجل، فيشترط أن يكون الرجل مماثلاً أو مقارباً لها في أمور الكفاءة. ولا يشترط في المرأة أن تكون مساوية للرجل أو مقاربة له، بل يصح أن تكون أقل منه في أمور الكفاءة؛ لأن الرجل لا يعير بزوجة أدنى حالاً منه، أما المرأة وأقاربها فيعيرون بزوج أقل منها منزلة (1) . لكن يستثنى من هذا الأصل مسألتان تشترط فيهما الكفاءة من جانب المرأة، ذكرتا سابقاً وهما:
الأولى ـ أن يزوج غير الأب أو الجد عديم الأهلية أو ناقصها، أويزوجه الأب أو الجد الذي عرف قبل العقد بسوء الاختيار، فإنه يشترط لصحة هذا الزواج أن تكون الزوجة مكافئة له، احتياطاً لمصلحة الزواج، وإلا لم يصح الزواج.
الثانية ـ أن يوكل الرجل غيره في تزويجه وكالة مطلقة، فإنه يشترط لنفاذ العقد على الموكل في رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد أن تكون الزوجة كفئاً له.
المبحث الخامس ـ ما تكون فيه الكفاءة، أو أوصاف الكفاءة :
اختلف الفقهاء في خصال الكفاءة، فهي عند المالكية اثنان: وهما الدين والحال، أي السلامة من العيوب المثبتة للخيار، لا الحال بمعنى الحسب والنسب.
وعند الحنفية ستة: هي الدين والإسلام والحرية والنسب والمال والحرفة (2) .
__________
(1) البدائع: 320/2، الدسوقي: 249/2، مغني المحتاج: 164/3، كشاف القناع: 72/5.
(2) نظم العلامة الحموي ما تعتبر فيه الكفاءة، فقال:
إن الكفاءة في النكاح تكون في ..... ..... ست لها بيت بديع قد ضبط
نسب وإسلام كذلك حرفة ..... ...... حرية وديانة مال فقط
(9/226)
ولا تكون الكفاءة عندهم في السلامة من العيوب التي يفسخ بها البيع كالجذام والجنون والبرص، والبخَر والدفَر إلا عند محمد في الثلاثة الأولى.
وعند الشافعية خمسة: هي الدين أو العفة، والحرية، والنسب، والسلامة من العيوب المثبتة للخيار، والحرفة.
وعند الحنابلة خمسة أيضاً: هي الدين، والحرية، والنسب، واليسار (المال)، والصناعة أي الحرفة (1) .
فهم متفقون على الكفاءة في الدين، واتفق غير المالكية على الكفاءة في الحرية والنسب والحرفة، واتفق المالكية والشافعية على خصلة السلامة من العيوب المثبتة للخيار، واتفق الحنفية في ظاهر الرواية والحنابلة على خصلة المال، وانفرد الحنفية بخصلة إسلام الأصول.
__________
(1) البدائع: 318/2-320، الدر المختار ورد المحتار: 437/2-445، فتح القدير: 419/2-424، اللباب: 13/3، الشرح الكبير: 249/2 وما بعدها، المهذب: 39/2، مغني المحتاج: 165/3-167، كشاف القناع: 72/5 وما بعدها، المغني: 482/6-486.
(9/227)
1 - الديانة، أو العفة أو التقوى: المراد بها الصلاح والاستقامة على أحكام الدين، فليس الفاجر والفاسق كفئاً لعفيفة أو صالحة بنت صالح، أو مستقيمة، لها ولأهلها تدين وخلق حميد، سواء أكان معلناً فسقه، أم غير معلن أي لا يجهر بالفسق لكن يشهد عليه أنه فعل كذا من المفسقات؛ لأن الفاسق مردود الشهادة والرواية، وهو نقص في إنسانيته، ولأن المرأة تعير بفسق الزوج أكثر ما تعير بضعة نسبه، فلا يكون كفئاً لامرأة عدل، بالاتفاق ما عدا محمد بن الحسن، لقوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً، لا يستوون} [السجدة:18/32] وقوله سبحانه: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور:3/24] ونوقش الاستدلال بالآيتين، أما الأولى فهي في حق المؤمن والكافر، وأما الثانية فهي منسوخة، والأصح الاستدلال بحديث أبي حاتم المزني المتقدم: « إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» .
وقال محمد: إن الفسق لا يمنع الكفاءة، إلا إذا كان صاحبه متهتكاً يصفع ويسخر منه،أو يخرج إلى الأسواق سكران؛ لأن الفسق من أحكام الآخرة، فلا تبتنى عليه أحكام الدنيا.
وهل يكون الفاسق كفئاً لفاسقة بنت صالح، قال بعض الحنفية: لا يكون الفاسق كفئاً لها، وقال ابن عابدين: إن المفهوم من كلامهم اعتبار صلاح الكل أي الفتاة والأب، وإن من اقتصر على صالحة أو صلاح آبائها نظر إلى الغالب من أن صلاح الولد والوالد متلازمان، فعلى هذا لا يكون الفاسق كفئاً لصالحة بنت صالح، بل يكون كفئاً لفاسقة بنت فاسق، وكذا لفاسقة بنت صالح، لأن ما يلحقه من العار ببنته أكثر من العار بصهره. وإذا كانت صالحة بنت فاسق، فزوجت نفسها من فاسق، فليس لأبيها حق الاعتراض؛ لأنه مثله، وهي قد رضيت به.
(9/228)
2 - الإسلام: شرط انفرد به الحنفية بالنسبة لغير العرب، خلافاً للجمهور، والمراد به إسلام الأصول أي الآباء، فمن له أبوان مسلمان كفء لمن كان له آباء في الإسلام، ومن له أب واحد في الإسلام لا يكون كفئاً لمن له أبوان في الإسلام؛ لأن تمام النسب بالأب والجد. وألحق أبو يوسف الواحد بالمثنى.
ومن أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لمن له أب واحد في الإسلام؛ لأن التفاخر فيما بين الموالي (غير العرب) بالإسلام.
ودليل الحنفية على هذه الخصلة: أن تعريف الشخص يكون كاملاً بالأب والجد، فإذا كان الأب والجد مسلماً، كان نسبه إلى الإسلام كاملاً.
ولا تعتبر هذه الخصلة إلا في غير العرب؛ لأنهم بعد إسلامهم صار فخرهم بالإسلام، وهو شرفهم الذي قام مقام النسب. أما العرب فلا يعتبر فيهم التكافؤ في إسلام الآباء؛ لأن العرب يتفاخرون بأنسابهم، ولا يتفاخرون بإسلام أصولهم، فالعربي المسلم الذي ليس له أب مسلم كفء للعربية المسلمة التى لها أب وأجداد مسلمون.
(9/229)
3 - الحرية: شرط في الكفاءة عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فلا يكون العبد ولو مبعضاً كفئاً لحرة ولو كانت عتيقة؛ لأنه منقوص بالرق، ممنوع من التصرف في كسبه، غير مالك له، ولأن الأحرار بمصاهرة الأرقاء كما يعيرون بمصاهرة من دونهم في النسب والحسب.
واشترط الحنفية والشافعية أيضاً حرية الأصل، فمن كان أحد آبائه رقيقاً ليس كفئاً لحر الأصل، أو لمن كان أبوها رقيقاً ثم أعتق، ومن كان له أبوان في الحرية ليس كفئاً لمن كان له أب واحد في الحرية.
وأضاف الحنفية والشافعية أن العتيق ليس كفئاً لحرة أصلية؛ لأن الأحرار يعيرون بمصاهرة العتقاء، كما يعيرون بمصاهرة الأرقاء.
وقال الحنابلة: العتيق كله كفء للحرة.
وأما المالكية فلم يشترطوا الحرية في الكفاءة، وقالوا: في كفاءة العبد للحرة، وعدم كفاءته لها على الأرجح تأويلان: المذهب أنه ليس بكفء، والراجح أنه كفء، وهو الأحسن؛ لأنه قول ابن القاسم.
وقال الدسوقي: والظاهر التفصيل: فما كان من جنس الأبيض فهو كفء؛ لأن الرغبة فيه أكثر من الأحرار، وبه الشرف في عرف مصرنا، وما كان من جنس الأسود فليس بكفء؛ لأن النفوس ـ على حد تعبيره ـ تنفر منه، ويقع به الذم للزوجة. وهذا حكاية لعرف الناس في عصره، وليس أمراً مقرراً في الشرع.
لذا أرى أن هذا الرأي خاص بالدسوقي، فإن مبادئ الشريعة تناقض هذا القول إذ لا تفرقة في أحكامها بين الناس بسبب اللون، وما اعتمده من عرف مصر هو عرف فاسد، لمصادمته مبادئ الشريعة، أو أنه مجرد أهواء نفسية وميول خاصة لا يقرها الشرع؛ لأن الناس سواء في دين الله تعالى.
(9/230
4 - النسب: وسماه الحنابلة: المنصب.
المراد بالنسب: صلة الإنسان بأصوله من الآباء والأجداد. أما الحسب: فهو الصفات الحميدة التي يتصف بها الأصول أو مفاخر الآباء، كالعلم والشجاعة والجود والتقوى. ووجود النسب لا يستلزم الحسب، ولكن وجود الحسب يستلزم النسب.والمقصود من النسب أن يكون الولد معلوم الأب، لا لقيطاً أو مولى إذ لا نسب له معلوم. ولم يعتبر المالكية الكفاءة في النسب، أما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية) فقد اعتبروا النسب في الكفاءة، لكن خصص الحنفية النسب في الزواج من العرب؛ لأنهم الذين عنوا بحفظ أنسابهم، وتفاخروا بها، وحدث التعيير بينهم فيها.
أما العجم فلم يعنوا بأنسابهم ولم يفتخروا بها، ولذا اعتبر فيهم الحرية والإسلام. والأصح عند الحنفية أن العجمي لا يكون كفئاً للعربية ولو كان عالماً أو سلطاناً.
وبناء على هذا الرأي: لا يكون العجمي كفئاً للعربية، لقول عمر: «لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من الأكفاء» (1) ، ولأن الله اصطفى العرب على غيرهم، ولأن العرب فضلت الأمم برسول الله صلّى الله عليه وسلم .
وقريش عند الحنفية وفي رواية عن أحمد بعضهم أكفاء بعض، وبقية العرب بعضهم أكفاء بعض، واستثنى بعضهم بني باهلة لخستهم. ودليلهم قول ابن عباس: قريش بعضهم أكفاء بعض.
ويرى الشافعية وفي رواية أخرى عن أحمد: أن غير الهاشمي والمطلبي ليس
__________
(1) رواه الخلال والدارقطني.
(9/231)
كفئاً لباقي قريش كبني عبد شمس ونوفل، وإن كانا أخوين لهاشم، لخبر: «إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (1) .
ويتفق الجمهور على أن قريشاً وهم أولاد النضر بن كنانة أفضل نسباً من سائر العرب، فالقرشية لا يكافئها إلا قرشي مثلها، والقرشي كفء لكل عربية. وأن المرأة العربية غير القرشية يكافئها أي عربي من أي قبيلة كانت، ولكن لا يكافئها غير العربي أي العجمي.
ودليل الجمهور حديث: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام» (2) .
والحق أن اعتبار النسب في الكفاءة ليس صحيحاً، والصحيح قول المالكية؛ لأن مزية الإسلام الجوهرية هي الدعوة إلى المساواة، ومحاربة التمييز العرقي أو العنصري، ودعوات الجاهلية القبلية والنسبية، ولأن انتشار الإسلام بين الناس غير العرب إنما كان أساساً لهذه المزية، وإعلان حجة الوداع واضح وهو أن الناس جميعاً أبناء آدم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.
أما الحديث الذي اعتمد عليه الجمهور فهو ضعيف، لذا فإن تفضيل قريش على سائر العرب، ثم تفضيل العرب على العجم، لم يدل عليه شيء من السنة، بل ورد في السنة خلافه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان، وزوج أبا العاص بن
__________
(1) رواه الترمذي عن واثلة، وهو صحيح.
(2) رواه الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر، ولكنه حديث منقطع (نصب الراية: 197/3، سبل السلام: 128/3).
(9/232
ربيع زينب، وهما من بني عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وزوج النبي بنت عمته زينب وهي قرشية زيد بن حارثة، وهو من الموالي، وتزوج أسامة ابن زيد فاطمة بنت قيس وهي من قريش، بعد أن طلقها زوجها: أبو عمر بن حفص بن المغيرة، فأخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» (1) .
وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي، وتزوج المصعب بن الزبير أختها سكينة، وتزوجها أيضاً عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنة الزبير بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وزوج أبو بكر أخته أم فروة الأشعث بن قيس، وهما كنديان (2) .
ولأن العجم والموالي بعضهم لبعض أكفاء، وإن تفاضلوا، وشرف بعضهم على بعض، وكذلك العرب.
وإذا حرص العرب على أنسابهم وتفاخروا بها، فإن غير العرب قد حرصوا على أنسابهم، وتتعير المرأة منهم إذا تزوجت من لا يساويها في الحسب والنسب.
5 - المال أو اليسار: المراد به القدرة على المهر والنفقة على الزوجة، لا الغنى والثراء، فلا يكون المعسر كفئاً لموسرة. وحدد بعض الحنفية هذه القدرة على نفقة شهر، وصحح بعضهم الاكتفاء بالقدرة عليها بالكسب.
واشترط اليسار في الكفاءة الحنفية والحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الحديث السابق لفاطمة بنت قيس: «أما معاوية فصعلوك لا مال له» ، ولأن الناس
__________
(1) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس (سبل السلام: 129/3).
(2) المغني: 483/6 وما بعدها.
(9/233)
يتفاخرون بالمال أكثر من التفاخر بالنسب، ولأن الموسرة تتضرر في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولاده، ولهذا ملكت الفسخ بإعساره بالنفقة، ولأن عدم اليسار نقص في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب.
وقال الشافعية في الأصح والمالكية: لا يعد اليسار في خصال الكفاءة؛ لأن المال ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر.
والراجح لدي هو هذا الرأي؛ لأن الغنى لا دوام له، والمال غاد ورائح، والرزق مقسوم منوط بالكسب، والفقر شرف في الدين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» (1) .
6 - المهنة أو الحرفة أو الصناعة :
والمراد بها العمل الذي يمارسه الإنسان لكسب رزقه وعيشه، ومنه الوظيفة في الحكومة.
وذكر الجمهور غير المالكية الحرفة في خصال الكفاءة، بأن تكون حرفة الزوج أو أهله مساوية أو مقاربة لحرفة الزوجة أو أهلها. فلا يكون صاحب حرفة دنيئة كالحجام والحائك والكسَّاح والزبال والحارس والراعي والفقَّاط كفئآً لبنت صاحب صناعة جليلة أو رفيعة كالتاجر والبزاز، أي الذي يتجر في البَزّ وهو القماش، والخياط، ولا تكون بنت التاجر والبزاز كفئاً لبنت العالم والقاضي نظراً للعرف فيه. وأما أتباع الظلمة فأخسّ من الكل. وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض؛ لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة، ولا نقيصة أعظم من الكفر.
والمعول عليه في تصنيف الحرف هو العرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة، فقد تكون الحرفة دنيئة في زمن، ثم تصبح شريفة في زمن آخر. وقد تكون الحرفة وضيعة في بلد، وتكون رفيعة في بلد آخر.
ولم يذكر المالكية الحرفة من خصال الكفاءة؛ لأنها ليست بنقص في الدين، ولا هي وصف لازم، كالمال، فأشبه كل منهما الضعف والمرض والعافية والصحة. وهذا هو الراجح لدي.
__________
(1) رواه الترمذي من حديث أنس، وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري (تخريج أحاديث الإحياء للعراقي: 167/4).
(9/234
7 - السلامة من العيوب المثبتة للخيار في النكاح: كالجنون والجذام والبرص. اعتبرها المالكية والشافعية من خصال الكفاءة، فمن كان به عيب منها رجلاً أو امرأة ليس كفئاً للسليم من العيوب؛ لأن النفس تعاف صحبة من به بعضها، ويختل بها مقصود النكاح.
ولم يعتبر الحنفية والحنابلة السلامة من العيوب من شروط الكفاءة، ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون أوليائها؛ لأن الضرر مختص بها، ولوليها منعها من نكاح المجذوم والأبرص والمجنون. وهذا الرأي هو الأولى؛ لأن خصال الكفاءة حق لكل من المرأة والأولياء.
هذه هي خصال الكفاءة، أما ما عداها كالجمال والسن والثقافة والبلد والعيوب الأخرى غير المثبتة للخيار في الزواج كالعمى والقطع وتشوه الصورة، فليست معتبرة، فالقبيح كفء للجميل، والكبير كفء للصغير، والجاهل كفء للمثقف أو المتعلم، والقروي كفء للمدني، والمريض كفء للسليم.
لكن الأولى مراعاة التقارب بين هذه الأوصاف، وبخاصة السن والثقافة؛ لأن وجودهما أدعى لتحقيق الوفاق والوئام بين الزوجين، وعدمهما يحدث بلبلة واختلافاً مستعصياً، لاختلاف وجهات النظر، وتقديرات الأمور، وتحقيق هدف الزواج، وإسعاد الطرفين.
الكفاءة في القانون : إن خصال الكفاءة المطلوبة عند الفقهاء روعي فيها عرف المجتمعات الماضية ، فكل ما أدى إلى الإضرار بسمعة المرأة و أوليائها ، كانت الكفاءة فيه شرطاً لازوم العقد .
واليوم ينبغي أن يعتبر العرف الحاضر أيضاً، فإنه زال اعتبار كفاءة النسب والمال ونحوهما. لذا نص القانون السوري على ما يلي:
(م 26) : يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة.
(م 27): إذا تزوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح.
(9/235)
(م 28): العبرة في الكفاءة لعرف البلد.
(م 29): الكفاءة حق خاص للمرأة وللولي.
(م 30): يسقط حق الكفاءة لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة.
(م 31): تراعى الكفاءة عند العقد، فلا يؤثر زوالها بعده.
(م 32): إذا اشترطت الكفاءة حين العقد، أوأخبر الزوج أنه كفء، ثم تبين أنه غير كفء كان لكل من الولي والزوجة طلب فسخ العقد.
ويلاحظ أن هذه الأحكام يتفق أغلبها مع مذهب الحنفية، فالمادة الأولى في أن الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، أو من الجانبين، والثانية لتقرير أن الكفاءة شرط لزوم، لا شرط صحة، والثالثة مراعاة مبنى الكفاءة في الأصل وهو العرف، والرابعة كون الكفاءة حقاً لكل من المرأة والولي، والخامسة تحديد وقت سقوط حق الكفاءة عملاً بمشهور مذهب الحنفية، والسادسة وقت مراعاة الكفاءة وهو عند العقد، لا بعده، والسابعة التغرير بالكفاءة عند الاشتراط أو الإخبار بها.
(9/236)