Makshumnya Nabi dan Wali
Apakah seorang Rasul itu ma'shum dalam arti terpelihara dari dosa besar dan kecil atau dari dosa besar saja? Jawabnya ya. Nabi dan Rasul wajib ma'shum. Bagaimana dengan wali (aulia), apakah mereka juga maksum atau mahfudz yakni dijaga dari berbuat dosa besar dan kecil? Bagaimana cara mengetahui wali? Apakah dengan karomah?
Apakah seorang Rasul itu ma'shum dalam arti terpelihara dari dosa besar dan kecil atau dari dosa besar saja? Jawabnya ya. Nabi dan Rasul wajib ma'shum. Bagaimana dengan wali (aulia), apakah mereka juga maksum atau mahfudz yakni dijaga dari berbuat dosa besar dan kecil? Bagaimana cara mengetahui wali? Apakah dengan karomah?
سيدي ومولاي خادم الحق بارك الله تعالى بكم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فقد انتشر في بعض مواقع الإنترنت فتوى لأحد المتعالمين يُنكر فيها "عصمة الأولياء" مستدلاً بأقوال بعض العلماء بحسب فهمه لها، وقد غَرَّر بهذه الفتوى بعض الشباب وفتَنَهم بها، وأستأذنكم مولانا بنقل فتواه بنصها بالسؤال والجواب:
( سؤال: أستاذي الكريم، هل الأولياء معصومون؟ ودمتم ذخرا للإسلام والمسلمين_آمين
الجواب: حقيقة العصمة هي: حفظ الله للعبد من الوقوع في التلبس بمنهي عنه شرعا.
وعليه فالحفظ يأتي على صورتين:
- أما الأولى: فحفظ واجب، وهذا خاص بالأنبياء؛ لأن وقوع المنهي عنه منهم يقتضي كوننا مأمورين بفعله، لأن الله تعالى أمرنا باتباعهم كما في قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفـر لكم ذنوبكم .. }، ومعلوم بطلان كون الله يأمر بالمنهي عنه، وهذه ملازمة شرعية بينهما في صورة ملازمة عقلية.
مع كون الخلاف قد وقع في وقوعهم في صغائر على ما بينه إمام الحرمين الجويني رحمه الله تعالى في كتاب "الإرشـاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد" بقوله:" أما الفواحش المؤذنة بالسقوط وقلة الديانة، فتجب عصمة الأنبياء عنها إجماعاً .. وأما الذنوب المعدودة من الصغائر، على تفصيل سيأتي الشرح عليه فلا تنفيه العقول. ولم يقم عندي دليل قاطع سمعي على نفيها، ولا على إثباتها. إذ القواطع نصوص أو إجماع، ولا إجماع إذ العلماء مختلفون في تجويز الصغائر على الأنبياء. والنصوص التي تثبت أصولها قطعاً، ولا يقبل فحواها التأويل غير موجودة.
فإن قيل: إذا كانت المسألة مظنونة فما الأغلب على الظن عندكم؟
قلنا: الأغلب على الظن عندنا جوازها، وقد شهدت أقاصيص الأنبياء في آي من كتاب الله تعالى على ذلك "انتهى المراد منه.
- وأما الثانية: فحفظ جائز، وهذا يصح وقوعه للأولياء لعدم امتناعه العقلي حيث هو من الممكنات، ولم يمنع الشارع ذلك، بل في الحديث:" احفظ الله يحفظك "، لكن الحال ما قرره الشيخ عبد الحليم بن محمد الرومي الحنفي (ت/1013) رحمه الله تعالى في كتابه: [رياض السادات:138] بقوله:" إلى أن قال المصنف: .. والأنبياء معصومون ويعلمون أنهم أنبياء، ودلالة الكرامة على الولاية ليست قطعية، بل ظنية. وليس الأولياء معصومين، نعم قد يكون بعضهم محفوظا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وهذا نادر عزيز منهم، وأما الغالب فقد يقع منهم بعض الصغائر مع عدم الإصرار عليها، قال أبو القاسم القشيري رضي الله عنه:" فإن قيل هل يكون الولي معصوما؟ قيل: أما وجوبا كما يقال في الأنبياء فلا. وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب _ وإن حصلت هيئات أو هفوات أو زلات _ فلا تمنع ذلك في وصفهم .. "انتهى المراد منه.
والخلاصة: أن عصمة الأولياء جائزة، وأما وجوبها فباطل! والقول به بدعة ضلال؛ لأن الولي قد يقع في ذنوب، قال الإمام أبو بكر الكلاباذي رحمه الله تعالى في [التعرف لمذهب أهل التصوف:74 تحقيق الشيخ عبد الحليم محمود]:" وقال بعضهم: إن كرامات الأولياء تجري عليهم من حيث لا يعلمون، والأنبيـاء تكون لهم المعجزات وهم بها عالمون، وبإثباتها ناطقون، لأن الأوليـاء قد يُخشَى عليهم الفتنة مع عدم العصمة، والأنبياء لا يُخشَى عليهم الفتنة بها، لأنهم معصومون "اهـ
وقال في: [ص75]:" ومن كان بهذه الصفة لم يكن للعدو إليه طريق بمعنى الإغواء، لقوله عز وجل: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، وهو مع هذا ليس بمعصوم من صغيرة ولا كبيرة، فإن وقع في أحديهما قارنته التوبة الخالصة.
والنبي معصوم لا يجري عليه كبيرة بإجماع، ولا صغيرة عند بعضهم " اهـ
هذا، وبالله التوفيق. ) انتهت فتواه.
فأرجو من فضيلتكم كشف اللبس، وإيضاح الحق، والرد على هذه الفتوى، فما رأيناكم إلا ناصرين للحق وأهله محاربين لأعدائه، ولكم جزيل الشكر ووافر التقدير، نفع الله الأمة بكم وأفاض عليها من بركاتكم ... آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته .
خادمكم : أبو بكر .. "اهـ
فأجاب رضي الله عنه::
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحميد المجيد، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد وآله وصَحْبِه وخُلفائه وورثته خير العبيد.
حبيبي أبو بكر، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فإما أن صاحب هذه الفتوى ناقل غبي، أو مفت شـقي؛ لأن المستفتي يسـأل عن حكم العصمة " ثبوتـاً " لا " رُتْبَـةً "، والنصوص المنقولـة تدور في هذا الفلك، غير أن كلامه في الخلاصة شذ إلى الرُّتْبَـة!!
فوجه الغباء: من جهة افتراض عدم فهم المدعي للسؤال والنصوص المنقولة في الجواب؛ إذ لا يخرج الناظر فيها إلا بحكم الثبوت الصحيح الذي يبدو أن هذا "المفتي!!" لم يبصره لقلة علمه وقصر نظره وتلبسه بالهوى، وفيها:
قول الشيخ عبد الحليم الحنفي:" نعم قد يكون بعضهم محفوظا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وهذا نادر عزيز منهم، وأما الغالب: فقد يقع منهم بعض الصغائر مع عدم الإصرار عليها "اهـ، وسيأتي الكلام عن هاتين الرتبتين ( "النادر" و "الغالب" ) بإذن الله تعالى.
قول الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه:" فإن قيل هل يكون الولي معصوما؟ قيل: أما ( وجوباً ) كما يقال في الأنبياء: فلا. وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب _ وإن حصلت هيئات أو هفوات أو زلات _ فلا تمنع ذلك في وصفهم "اهـ، فكلامه في الرتبة لا الثبوت، وليس المقصود من كلامه في الحفظ نفي العصمة كما هو واضح من نصوص أخرى له، وذلك ظاهر لكل من له أدنى حظ من العلم فضلا عمن يدعي الإفتاء، وهو ما بينه الشيخ الحنفي بنقله لكلام الإمام بعد تفريقه بين النادر والغالب.
وكلام الإمام الكلاباذي مثل كلام الإمام القشيري رضي الله تعالى عنهما، ومن نصوصـه الواضحة في عدم قصد نفي العصمة عن الأولياء رضي الله تعالى عنهم في نحو الكلام المنقول: قوله في [ كتاب التعرف ] عن الولي الفاني والباقي:" .. والحق يتولى تصريفه، فيصرفه في وظائفه وموافقاته، فيكون محفوظا فيما لله عليه، مأخوذاً عما له وعن جميع المخالفات، فلا يكون له إليها سبيل، ( وهو العصمة )، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كنت له سمعاً وبصراً الخبر .. والباقي: هو أن تصير الأشياء كلها له شيئاً واحداً، فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته، فيكون فانياً عن المخالفات باقياً في الموافقات. وليس معنى " أن تصير الأشياء كلها له شيئاً واحداً ": أن تصير المخالفات له موافقات، فيكون ما نهى عنه كما أمر به! ولكن على معنى: أن لا يجري عليه إلا ما أمر به وما يرضاه الله تعالى دون ما يكرهه، ويفعل ما يفعل لله لا لحظ له فيه في عاجل أو آجل.
وهذا معنى قولهم ( يكون فانياً عن أوصافه باقياً بأوصاف الحق ) "اهـ
وقال رضي الله تعالى عنه:" فأما من سبق له من الله الحسنى: فإن الشبهات لا تقع له، والعوارض تزول عنه: إما اكتسابا من علم الكتاب والسنة ودلائل العقل .. أو يكون ممن قد وقع له صحة الإيمان .. أو يكون ممن وقع له صحة ما أقر به شهودا أو كشوفا .. فمن وقع له صحة ما أقر به من هذه الجهة: لم يرجع عن الآخرة إلى الدنيا، ولا ترك الأولى للأدنى.
وهذا كله أسباب العصمة من الله له، وتصديق ما وعد بقوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؛ فقد صح أن المؤمن الحقيقي لا ينتقل عن الإيمان، لأنه موهبة له من الله جل وعز، وعطاء وفضل واختصاص، وحاشا الحق عز وجل أن يرجع فيما وهب أو يسترد ما أعطى ..
وقول من قال: إن الفاني يرد إلى أوصافه محال؛ لأن القائل إذ أقر بأن الله تعالى اختص عبدا واصطنعه لنفسه، ثم قال إنه يرده، فكأنه قال: يختص ما لا يختص ويصطنع مالا يصطنع! وهذا محال.
وجوازه من جهة التربية والحفظ عن الفتنة لا يصح أيضا؛ لأن الله تعالى لا يحفظ على العبد ما آتاه من جهة السلب، ولا بأن يرده إلى الأوضع عن الأرفع! ولو جاز هذا جاز أن لا يحفظ مواضع الفتن من الأنبياء، بأن يردهم من رتبة النبوة إلى رتبة الولاية أو ما دونها! وهذا غير جائز.
ولطائف الله تعالى في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه من الفتنة أكثر من أن تقع تحت الإحصاء والعد، وقدرته أتم من أن تحصر على فعل دون غيره.
فإن عورض بالذي آتاه آياته فانسلخ منها ! لم يعترض؛ لأن الذي انسلخ لم يكن قط شاهد حالا ولا وجد مقاما، ولا كان مختصا قط ولا مصطنعا، بل كان مستدرجا مخدوعا ممكوراً به، وإنما أجرى على ظاهره من أعلام المختصين وهو في الحقيقة من المردودين، وإنما حلى ظاهره بالوظائف الحسنة والأوراد الزكية وهو في القلب محجوب السر لم يجد قط طعم الخصوص ولا ذاق لذة الإيمان ولا عرف الله قط من جهة الشـهود؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: فكـان من الغاوين .. قال أبو سليمان:" والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إليه ما رجعوا عنـه "اهـ
وفي هذا الكلام من البيان: أن التحرز بلفظ "الحفظ" عن "العصمة": للتمييز بين حكم الوقوع لا وجوده ورتبته؛ وهو ما بُيِّنَ في شرح الكوكب:" قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ: لا تُطْلَقُ الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ إلاَّ بِقَرِينَةِ إرَادَةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ السَّلامَةُ مِنْ الشَّيْءِ .. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ السَّلامَةَ أَعَمُّ مِنْ وُجُوبِ السَّلامَةِ؛ فَقَدْ تُوجَدُ السَّلامَةُ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ وَالْمَلَكِ اتِّفَاقًا لا وُجُوبًا. قَالَهُ الْبِرْمَاوِيُّ "اهـ
ووجه الشقاء: من جهة فهم المدعي للسؤال والنصوص المنقولة في الجواب، وإرادته التلبيس بفعله ابتغاء الفتنة!!
فالمطلوب هاهنا: بيان المسألة لإظهار الحق وإزهاق الباطل؛ فقد قال الله تعالى: .. فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي .. [المستدرك].
فأقول مستعيناً بالله سبحانه وتعالى استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به:
الْعِصْـمَةَ لغة: هي السَّلامَةُ مِنْ الشَّيْءِ، وشرعاً: هي كفُّ الشيء عن المعصوم ( كما في قول الله تعالى: .. وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. [المائدة:67] )، واصطلاحا: هي تَهَيُّؤُ الْعَبْـدِ لِلْمُوَافَقَةِ مُطْلَقـاً، فتكونُ كَافَّةُ أَعْمَالِهِ سَالِمَةً مِنَ المُخَالَفَاتِ.
والقرآن والسنة ناطقان بإثبات " عصمة الأولياء رضي الله تعالى عنهم ": قال الله تعالى: وهو يتولى الصالحين [الأعراف:196]؛ فلما تولى سبحانه وتعالى المؤمنين جملة دل قوله هذا على تخصيص الصالحين عمن دونهم، ولما نظرنا! وجدنا أن من خصائص طبقةٍ منهم: " العصمة " التي أشار إليها الله تعالى بقوله: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ إذ " نفي الخوف والحزن " مطلقاً: إثبات للعصمة، لأن السلامة من أسباب المنفي ( وهي: الذنوب والعيـوب ) شرط لوقوعه، وهو ما بيَّنَته السُّـنةُ الشريفةُ نصّاً، كما سأذكره في موضعه بعون الله تعالى.
وباعتبار " عموم اللفظ " في " آية الأولياء "، يمكن حمل النص على الولاية عموماً، وهي ثلاث مراتب:
الولاية الكبرى: وهي الخِلافة، فيكون نفي الخوف والحزن عن أهلها للحفظ الوهبي، وهو العصمة.
وهو ما نص عليه سيدُنا رسـولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ما بعثَ اللهُ من نبيٍّ ولا استخلفَ مِن خليفـةٍ إلا كانت له بِطانتـان: بِطانةٌ تأمرُهُ بالمعروفِ وتحُضُّه عليه، وبِطانةٌ تأمره بالشّرِّ وتحضُّه عليه، فالمَعْصُومُ من عَصَمَ اللهُ تعالى [البخاري]؛ وفيه تصريحٌ بثبوت العِصمة للأولياء المستخلفين رضي الله تعالى عنهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في [ الفتح ]:" قوله [ أي: الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه ] .. ( المعصوم من عصَم اللهُ ) أي: مَن عَصَمَه اللهُ بأن حماه من الوقوع في الهلاك أو ما يجر إليه .. وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: حفظهم من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفسية والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة، والفرق بينهم وبين غيرهـم: أن العصمة في حقهم بطريق الوجوب وفي حقِّ غيرهم بطريق الجواز "اهـ
فقوله " في حق غيرهم بطريق الجواز ": نص على إثبات وقوعها لغيرهم وتمييزها في الرتبة.
قلت: ومعنى "الوجـوب" بحق الأنبياء عليهم السلام: أنه لا يكون نبي إلا معصوماً.
ومعنى "الجـواز" في حق الأولياء رضي الله تعالى عنهم: أنه يكون وليٌّ ليس معصوماً، أي: أن وقوع العصمة ليست شرطاً في الولاية، وإنما هي فضل يختص الله تعالى به من شاء من أوليائه الكرام رضي الله تعالى عنهم، وهم: أهل الولاية الكبرى؛ على ما سأبينه في التصريح:
وصَرَّحَ بمعناه فيما يرويه عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ: لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافـل حتى أحبَّـه، فإن أحببتَه: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها وفي روايـة: وقلبه الذي يعقل به .. الخبر، وفي رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق .. ؛ إذ تصـور المخالفة ممن كـان الله تعالى له كذلك محـال، بل لو حُمل الخبر على غير معنى العصمة لكان لغـواً.
ومن ثم، قال الإمام الكلاباذي رضي الله تعـالى عنه في [ معاني الأخبار ]:" أي: كنت حافظـاً له: أعصمه وأعصم جوارحه ظاهراً وباطناً أن يتصرف إلا في نجـاتي؛ لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه "اهـ
قلت: وقد تقدم من كلامه رضي الله تعالى عنه ما يزيل شبهة " زوال هذه العصمة بعـد وقوعها "، وهو ما بيَّنتُه مُفَصّلاً في غير هذا الموضع.
وحاصله: أن ما كان مقتضاه " محبة الله تعالى " يستحيل زواله بعد حدوثه، لاستلزام ذلك التغيّرَ، والتغيّرُ مستحيل على الله تعالى.
وإن محبة الله تعالى عصمة للمحبوب، كما في الخبر الصحيح: إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا .. [الترمذي والحاكم والبيهقي]؛ ومن ثم نقـل الإمام النـووي رضي الله تعالى عنه في شرح مسلم عن العلماء قولهم:" محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته، وإنعامه عليه ورحمته، وبغضه إرادة عقابه أو شقاوته ونحوه "اهـ
وقد ثبت: أن " المحبة ": إن تعلقت بالأحباب عُصِموا في الظاهر والباطن من الإذناب، وإن تعلقت بالأسباب _ كما في قول الله تعـالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقـرة:222] _ عُصِمَ المُتَسَبِّبُ باعتصامه بها من العذاب.
وخلاصة ذلك: أن العبد لا يزال معصوماً بفعله، حتى إذا بُلِّغَ مقامَ المحبة صار معصوماً بفاعله، وما يلقَّاها إلا الذين صبروا وما يُلقَّاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت:35].
ومما أُثِرَ في هذه العِصمة غير ما تقدم:
قول الإمام ذو النون رضي الله تعالى عنه في وصف هذه الولاية:" الولي: من توالت ولايته، وتولى الله عليه حركاته وأنفاسه، وقطعه عن الخلائق أجمع وزَهّدهم فيه، وأظهر عليه بركات نظره وسعته "اهـ
قول الإمام أبو عثمان المغربي رضي الله تعالى عنه:" لا يكون الوليُّ مفتوناً في ولايته "اهـ
قول أبو عثمان النيسابوري رضي الله تعالى عنه:" حُقَّ لمن أعزَّه اللهُ بالمعرفة ألا يُذِلّه بالمعصية "اهـ[طبقات:173].
قول الإمام السلمي رضي الله تعالى عنه في "مسألة درجات الصادقين":" وإذا أظهر ولياً من أوليائه للخلق أسقط عنه محلّ الفتنة، فلا يكون فاتناً ولا مفتونا "اهـ
قول الإمام عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه في [الغنية] عمن نعتهم بـ" الأولياء المتحققين رضي الله تعالى عنهم ":" جعلهم ربي جواسيس القلوب والأمناء على السرائر والخفيـات وحرسـهم من الأعـداء في الخلوات والجلوات لا شيطان مضـل ولا هوى متبع يميل بهم إلى الضلالات؛ قال الله عز وجل: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الحجر 42/الإسراء:65] ولا في نفس أمارة بالسوء، ولا شهوة غالبة متبعة تدعوه إلى اللذات المردية في الدركات المخرجة من أهل السنة والجماعات؛ قال الله عز من قائل: كذلك لنصرف عنـه السوءَ والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:24] فحرسـهم ربي، وقمع رعونات نفوسهم وضراوتها بسلطان الجبروت فثبتهم في مراتبهم ووفقهم للوفاء بشرطه "اهـ
وقال في [الفتح الرباني]:" أولياء الله عزَّ وجلَّ متأدبون بين يديه: لا يتحركون حركة ولا يخطون خطوة إلاّ بإذن صريح منه لقلوبهم .. "اهـ
وقال أيضاً:" آحـاد أفراد من هذا الجنس يردّهم إلى الخلق مع الحفظ الكليّ والسـلامة الكلية، يوفقهم لمصالح الخلق وهدايتهم "اهـ
وقيل:" إذا بلغ العبد مقام المعرفة أوحى الله إليه بخواطره وحرس سرّه أن يسنح فيه غير خاطر الحق "اهـ
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رضي الله تعالى عنه في [قواعد الأحكام]:" الأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وُصِفَتْ بِالْقُدْسِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لِمَنْ حَلَّ بِهَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا "اهـ
قال الراغب الأصفهاني في [تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين]:" فالمتدرب في فعل الخير المتقوي فيه يصير بحيث يكون له من الله تعالى واقية تحفظه عن الأفعال القبيحة وتحثه على الأفعال الحسنة. وهذا معنى العصمة وعلى ذلك نبه الله تعالى في صفة أولياءه بقوله: أولئك كُتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه . وقال تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون "اهـ
الولاية الوسطى: وهي الوراثـة، فيكون نفي الخوف والحزن عن أهلها للحفظ التوفيقي، وهو اصطلاحاً: تقوية العبد على الموافقةِ وسرعةِ الإنابةِ إن غُلب على المعصية فتكون كافَّةُ أعمالِهِ سالمةً من المخالفات عادةً، فإن غُلِبَ على معصية وُفِّقَ للإنابة من قريب.
قال سلطان العلماء العـز بن عبد السـلام رضي الله تعالى عنه في [قواعد الأحكام]:" فَإِنْ قِيـلَ: قَدْ خَالَفَ كَثِيرٌ مِمَّنْ اشْـتَهَرَ بِالْوِلايَـةِ بَعْضَ أَدَبِ الشَّرْعِ، فَهَـلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وِلايَتِهِ؟
قُلْنَا: أَمَّا مَا تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَلا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا مَا تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ:
فَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا لَمْ يَقْدَحْ فِي وِلايَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْوِلايَةِ فِي حَالِ مُلابَسَتِهِ دُونَ مَا مَضَى.
وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَقَدْ غَلَّظَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الذَّنْبِ الصَّغِيرِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يُسْقِطُ الْوِلايَةَ بِصَغِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْوَلِيُّ! وَهَؤُلاءِ جَهَلَةٌ؛ لأَنَّ اجْتِنَابَ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ فَضْلاً عَنْ الأَوْلِيَاءِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا عَرَفَ صَغِيرَةَ الْوَلِيِّ أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِلايَةِ وَطَعَنَ فِيهِ، وَرُبَّمَا هَجَرَهُ وَرَفَضَهُ وَقَلاهُ وَأَبْغَضَهُ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ بِإِبَاحَةِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ لَهُ مَا لَمْ يُحِلَّهُ لِغَيْرِهِ! وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالإِيجَابِ إلا لِعُذْرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَهَذَا أَشَرُّ الأَقْسَامِ.
وَأَشَرُّ مِنْهُ: مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ قُرْبَةٌ لِصُدُورِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَلِيِّ!
وَأَسْعَدُهُمْ: مَنْ اعْتَقَدَ وِلايَتَهُ مَعَ ارْتِكَابِهِ لِذَلِكَ الذَّنْبِ الصَّغِيرِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ؛ فَقَدْ عَصَى آدَم وَدَاوُد وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَخْرُجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَتِهِ عَنْ حُدُودِ وِلايَتِهِ. وَلَوْ رُفِعَتْ صَغَائِرُ الأَوْلِيَـاءِ إلَى الأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ لَمْ يَجُزْ تَعْزِيرُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَقْبَلُ عَثْرَتَهُمْ وَيَسْتُرُ زَلَّتَهُمْ ، فَهُمْ أَوْلَى مَنْ أُقِيلَتْ عَثْرَتُهُ، وَسُتِرَتْ زَلَّتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ غِيبَةُ الأَنْبِيَاءِ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ؟
قُلْنَا: إنْ ذُكِرَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا لَهُمْ وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ حُرِّمَ وَكَانَ كُفْرًا؛ فَإِنَّ اللهَ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ، وَإِطْمَاعًا فِي التَّوْبَةِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ مُسَامَحَةَ الأَكَابِرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَامَحَةَ الأَصَاغِرِ أَوْلَى، لأَنَّ الذَّنْبَ الصَّغِيرَ مِنْ الأَمَاثِلِ كَبِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَوْله تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ .
وَإِنْ ذُكِرَ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ لأَجْلِهِ فَلا بَأْسَ بِهِ، بَلْ رُبَّمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ وَيُحَثُّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُذْنِبِينَ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "اهـ
قلت: وهذا كلام نوافق عليه إلا " اعتبار أن ما صدر من ساداتنا الأنبياء عليهم السلام معصية شرعية "، ولو صغيرة؛ فنحن نعتقد: أن العصيان المضاف إلى الأنبياء عليهم السلام لغوي لا شرعي، وأن ما أشبه منه مخالفة الطلب كان من باب الاجتهاد في النص المحمول على غير الجزم، كما بينته بعون الله تعالى في غير هذا الموضع.
وقد تقدم بعض الآثار في هذه الرتبة.
ويجمع هاتين الرتبتين: قول الله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]؛ على أن الصابرين: هم أصحاب الولاية الوسطى، والمحظوظين: هم الكبراء رضي الله تعالى عنهم؛ وذلك أن رتبتهم وهبية لا كسبية.
الولاية الصغرى: وهي الاتباع، فيكون نفي الخوف والحزن للحفظ الجزائي، وهو: تقوية العبد على الموافقة لصالح أعماله، فهو محفوظ بعمله.
وإليه الإشارة بكلامي المتقدم في المحبة ( وإن تعلقت بالأسباب _ كما في قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] _ عُصِمَ المُتَسَبِّبُ باعتصامه بها من العذاب .. ).
قلت: وفي هذا القدر كفاية لمن طلب الحق بالهِداية، وقد ظهر فيه الحق وزهق الباطل والغِواية، كما تبين فيه " أحكام الرتبة " في البداية والنهاية.
ومما ينبغي التذكير به هاهنا: أن العصمة التي نبحثها هي السلامة من اقتراف المخالفات؛ بيانها:
قيل للإمام الجنيد رضي الله تعالى عنه: أهل المعرفة بالله يصلون إلى " ترك الحركات " من باب البرّ والتقوى إلى الله عز وجلّ؟! فقال:" إن هذا قول قوم تكلموا بإسـقاط الأعمال! وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرَّة إلا أن يُحال بي دونها "اهـ[القشيرية:430].
وقيل لجعفر بن نصر: إن بعض الناس يجالسون النساء ويقولون: نحن معصومون في رؤيتهن؟! فقال:" ما دامت الأشباح باقية، فإن الأمر والنهي باقٍ، والتحليل والتحريم مخاطبون به، ولن يجترئ على الشبهات إلا مَن تعرَّض للمُحرَّمات "اهـ[القشيرية:438].
وقال أحمد النوري:" مَن رأيته يدَّعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن حـدّ العلم الشرعي فلا تقربَنَّ منه "اهـ[القشيرية: 439].
وقال معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه:" لولا خروج الدنيـا من قلوب العارفين ما قدروا على فعل الطاعات، ولو بقي من حبّها ذرّة في قلوبهم ما سلمت لهم سجدة واحدة "اهـ[الأنوار:41].
وقال رضي الله تعالى عنه أيضاً:" العارف يرجع إلى الدنيا اضطراراً، والمفتون اختياراً "اهـ[الأنوار:41].
فائدة ( في وقوع الخطأ ):
واعلم! أن الخطأ ليس ذنباً؛ قال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصـاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطـأ فله أجر واحـد [متفق عليه]؛ إذ لو كان ذنبـاً لترتب عليه الإثم لا الأجر، فإن وقع للأوليـاء رضي الله تعالى عنهم لم يتعارض مع حفظهم.
فإن قيل: هل يجوز أن يكون الولي محفوظاً عن الخطأ؟
قلنا: نعم؛ لأنه ممكن عقلاً، ولم يرد في الشرع مانع.
تنبيه ( لعلة بحث العصمة الكريمة وثمرتها ):
واعلم! أن مسألة " عصمة الأولياء الكرام " قدس الله تعالى أسرارهم البهية: إنما أبحثها من الناحية العلمية، لا الشخصيَّة؛ فلست أعني عصمة شخص بعينه، ولا عصمة جميع الأولياء رضي الله تعالى عنهم، بل هو: من جهة إثبات ما أثبته الشرع: أن الله تعـالى يعصم من شاء من عباده من نبي أو ولي.
وعصمة الأولياء رضي الله تعالى عنهم: نوع من النعمة الخاصَّة، لا تسقط عنهم تكليف، ولا توجب لهم حقاً زائداً على الناس، وإنما ثمرتها: إسقاط كلفة السلامة من المخالفات لجمع هِمتهم على تكاليف مقامهم.
والعصمة: نعمةٌ لا تسلب من تجرد عنها رتبته ومقامه في الدعوة إلى الله تعالى تسليكاً أو تبليغاً، ولا هي مفتاح باب الدعوة إرشاداً وتعليماً، بل هي زيادة لرفع الدرجة والاستخلاص، وتحلية العبادة بكمال الإخلاص.
والحمد لله رب العالمين.
خادم الحق
طارق بن محمد السَّعْدِي
المصدر
سيدي ومولاي خادم الحق بارك الله تعالى بكم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فقد انتشر في بعض مواقع الإنترنت فتوى لأحد المتعالمين يُنكر فيها "عصمة الأولياء" مستدلاً بأقوال بعض العلماء بحسب فهمه لها، وقد غَرَّر بهذه الفتوى بعض الشباب وفتَنَهم بها، وأستأذنكم مولانا بنقل فتواه بنصها بالسؤال والجواب:
( سؤال: أستاذي الكريم، هل الأولياء معصومون؟ ودمتم ذخرا للإسلام والمسلمين_آمين
الجواب: حقيقة العصمة هي: حفظ الله للعبد من الوقوع في التلبس بمنهي عنه شرعا.
وعليه فالحفظ يأتي على صورتين:
- أما الأولى: فحفظ واجب، وهذا خاص بالأنبياء؛ لأن وقوع المنهي عنه منهم يقتضي كوننا مأمورين بفعله، لأن الله تعالى أمرنا باتباعهم كما في قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفـر لكم ذنوبكم .. }، ومعلوم بطلان كون الله يأمر بالمنهي عنه، وهذه ملازمة شرعية بينهما في صورة ملازمة عقلية.
مع كون الخلاف قد وقع في وقوعهم في صغائر على ما بينه إمام الحرمين الجويني رحمه الله تعالى في كتاب "الإرشـاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد" بقوله:" أما الفواحش المؤذنة بالسقوط وقلة الديانة، فتجب عصمة الأنبياء عنها إجماعاً .. وأما الذنوب المعدودة من الصغائر، على تفصيل سيأتي الشرح عليه فلا تنفيه العقول. ولم يقم عندي دليل قاطع سمعي على نفيها، ولا على إثباتها. إذ القواطع نصوص أو إجماع، ولا إجماع إذ العلماء مختلفون في تجويز الصغائر على الأنبياء. والنصوص التي تثبت أصولها قطعاً، ولا يقبل فحواها التأويل غير موجودة.
فإن قيل: إذا كانت المسألة مظنونة فما الأغلب على الظن عندكم؟
قلنا: الأغلب على الظن عندنا جوازها، وقد شهدت أقاصيص الأنبياء في آي من كتاب الله تعالى على ذلك "انتهى المراد منه.
- وأما الثانية: فحفظ جائز، وهذا يصح وقوعه للأولياء لعدم امتناعه العقلي حيث هو من الممكنات، ولم يمنع الشارع ذلك، بل في الحديث:" احفظ الله يحفظك "، لكن الحال ما قرره الشيخ عبد الحليم بن محمد الرومي الحنفي (ت/1013) رحمه الله تعالى في كتابه: [رياض السادات:138] بقوله:" إلى أن قال المصنف: .. والأنبياء معصومون ويعلمون أنهم أنبياء، ودلالة الكرامة على الولاية ليست قطعية، بل ظنية. وليس الأولياء معصومين، نعم قد يكون بعضهم محفوظا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وهذا نادر عزيز منهم، وأما الغالب فقد يقع منهم بعض الصغائر مع عدم الإصرار عليها، قال أبو القاسم القشيري رضي الله عنه:" فإن قيل هل يكون الولي معصوما؟ قيل: أما وجوبا كما يقال في الأنبياء فلا. وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب _ وإن حصلت هيئات أو هفوات أو زلات _ فلا تمنع ذلك في وصفهم .. "انتهى المراد منه.
والخلاصة: أن عصمة الأولياء جائزة، وأما وجوبها فباطل! والقول به بدعة ضلال؛ لأن الولي قد يقع في ذنوب، قال الإمام أبو بكر الكلاباذي رحمه الله تعالى في [التعرف لمذهب أهل التصوف:74 تحقيق الشيخ عبد الحليم محمود]:" وقال بعضهم: إن كرامات الأولياء تجري عليهم من حيث لا يعلمون، والأنبيـاء تكون لهم المعجزات وهم بها عالمون، وبإثباتها ناطقون، لأن الأوليـاء قد يُخشَى عليهم الفتنة مع عدم العصمة، والأنبياء لا يُخشَى عليهم الفتنة بها، لأنهم معصومون "اهـ
وقال في: [ص75]:" ومن كان بهذه الصفة لم يكن للعدو إليه طريق بمعنى الإغواء، لقوله عز وجل: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، وهو مع هذا ليس بمعصوم من صغيرة ولا كبيرة، فإن وقع في أحديهما قارنته التوبة الخالصة.
والنبي معصوم لا يجري عليه كبيرة بإجماع، ولا صغيرة عند بعضهم " اهـ
هذا، وبالله التوفيق. ) انتهت فتواه.
فأرجو من فضيلتكم كشف اللبس، وإيضاح الحق، والرد على هذه الفتوى، فما رأيناكم إلا ناصرين للحق وأهله محاربين لأعدائه، ولكم جزيل الشكر ووافر التقدير، نفع الله الأمة بكم وأفاض عليها من بركاتكم ... آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته .
خادمكم : أبو بكر .. "اهـ
فأجاب رضي الله عنه::
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحميد المجيد، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد وآله وصَحْبِه وخُلفائه وورثته خير العبيد.
حبيبي أبو بكر، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فإما أن صاحب هذه الفتوى ناقل غبي، أو مفت شـقي؛ لأن المستفتي يسـأل عن حكم العصمة " ثبوتـاً " لا " رُتْبَـةً "، والنصوص المنقولـة تدور في هذا الفلك، غير أن كلامه في الخلاصة شذ إلى الرُّتْبَـة!!
فوجه الغباء: من جهة افتراض عدم فهم المدعي للسؤال والنصوص المنقولة في الجواب؛ إذ لا يخرج الناظر فيها إلا بحكم الثبوت الصحيح الذي يبدو أن هذا "المفتي!!" لم يبصره لقلة علمه وقصر نظره وتلبسه بالهوى، وفيها:
قول الشيخ عبد الحليم الحنفي:" نعم قد يكون بعضهم محفوظا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، وهذا نادر عزيز منهم، وأما الغالب: فقد يقع منهم بعض الصغائر مع عدم الإصرار عليها "اهـ، وسيأتي الكلام عن هاتين الرتبتين ( "النادر" و "الغالب" ) بإذن الله تعالى.
قول الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه:" فإن قيل هل يكون الولي معصوما؟ قيل: أما ( وجوباً ) كما يقال في الأنبياء: فلا. وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب _ وإن حصلت هيئات أو هفوات أو زلات _ فلا تمنع ذلك في وصفهم "اهـ، فكلامه في الرتبة لا الثبوت، وليس المقصود من كلامه في الحفظ نفي العصمة كما هو واضح من نصوص أخرى له، وذلك ظاهر لكل من له أدنى حظ من العلم فضلا عمن يدعي الإفتاء، وهو ما بينه الشيخ الحنفي بنقله لكلام الإمام بعد تفريقه بين النادر والغالب.
وكلام الإمام الكلاباذي مثل كلام الإمام القشيري رضي الله تعالى عنهما، ومن نصوصـه الواضحة في عدم قصد نفي العصمة عن الأولياء رضي الله تعالى عنهم في نحو الكلام المنقول: قوله في [ كتاب التعرف ] عن الولي الفاني والباقي:" .. والحق يتولى تصريفه، فيصرفه في وظائفه وموافقاته، فيكون محفوظا فيما لله عليه، مأخوذاً عما له وعن جميع المخالفات، فلا يكون له إليها سبيل، ( وهو العصمة )، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كنت له سمعاً وبصراً الخبر .. والباقي: هو أن تصير الأشياء كلها له شيئاً واحداً، فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته، فيكون فانياً عن المخالفات باقياً في الموافقات. وليس معنى " أن تصير الأشياء كلها له شيئاً واحداً ": أن تصير المخالفات له موافقات، فيكون ما نهى عنه كما أمر به! ولكن على معنى: أن لا يجري عليه إلا ما أمر به وما يرضاه الله تعالى دون ما يكرهه، ويفعل ما يفعل لله لا لحظ له فيه في عاجل أو آجل.
وهذا معنى قولهم ( يكون فانياً عن أوصافه باقياً بأوصاف الحق ) "اهـ
وقال رضي الله تعالى عنه:" فأما من سبق له من الله الحسنى: فإن الشبهات لا تقع له، والعوارض تزول عنه: إما اكتسابا من علم الكتاب والسنة ودلائل العقل .. أو يكون ممن قد وقع له صحة الإيمان .. أو يكون ممن وقع له صحة ما أقر به شهودا أو كشوفا .. فمن وقع له صحة ما أقر به من هذه الجهة: لم يرجع عن الآخرة إلى الدنيا، ولا ترك الأولى للأدنى.
وهذا كله أسباب العصمة من الله له، وتصديق ما وعد بقوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؛ فقد صح أن المؤمن الحقيقي لا ينتقل عن الإيمان، لأنه موهبة له من الله جل وعز، وعطاء وفضل واختصاص، وحاشا الحق عز وجل أن يرجع فيما وهب أو يسترد ما أعطى ..
وقول من قال: إن الفاني يرد إلى أوصافه محال؛ لأن القائل إذ أقر بأن الله تعالى اختص عبدا واصطنعه لنفسه، ثم قال إنه يرده، فكأنه قال: يختص ما لا يختص ويصطنع مالا يصطنع! وهذا محال.
وجوازه من جهة التربية والحفظ عن الفتنة لا يصح أيضا؛ لأن الله تعالى لا يحفظ على العبد ما آتاه من جهة السلب، ولا بأن يرده إلى الأوضع عن الأرفع! ولو جاز هذا جاز أن لا يحفظ مواضع الفتن من الأنبياء، بأن يردهم من رتبة النبوة إلى رتبة الولاية أو ما دونها! وهذا غير جائز.
ولطائف الله تعالى في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه من الفتنة أكثر من أن تقع تحت الإحصاء والعد، وقدرته أتم من أن تحصر على فعل دون غيره.
فإن عورض بالذي آتاه آياته فانسلخ منها ! لم يعترض؛ لأن الذي انسلخ لم يكن قط شاهد حالا ولا وجد مقاما، ولا كان مختصا قط ولا مصطنعا، بل كان مستدرجا مخدوعا ممكوراً به، وإنما أجرى على ظاهره من أعلام المختصين وهو في الحقيقة من المردودين، وإنما حلى ظاهره بالوظائف الحسنة والأوراد الزكية وهو في القلب محجوب السر لم يجد قط طعم الخصوص ولا ذاق لذة الإيمان ولا عرف الله قط من جهة الشـهود؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: فكـان من الغاوين .. قال أبو سليمان:" والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إليه ما رجعوا عنـه "اهـ
وفي هذا الكلام من البيان: أن التحرز بلفظ "الحفظ" عن "العصمة": للتمييز بين حكم الوقوع لا وجوده ورتبته؛ وهو ما بُيِّنَ في شرح الكوكب:" قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ: لا تُطْلَقُ الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ إلاَّ بِقَرِينَةِ إرَادَةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ السَّلامَةُ مِنْ الشَّيْءِ .. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ السَّلامَةَ أَعَمُّ مِنْ وُجُوبِ السَّلامَةِ؛ فَقَدْ تُوجَدُ السَّلامَةُ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ وَالْمَلَكِ اتِّفَاقًا لا وُجُوبًا. قَالَهُ الْبِرْمَاوِيُّ "اهـ
ووجه الشقاء: من جهة فهم المدعي للسؤال والنصوص المنقولة في الجواب، وإرادته التلبيس بفعله ابتغاء الفتنة!!
فالمطلوب هاهنا: بيان المسألة لإظهار الحق وإزهاق الباطل؛ فقد قال الله تعالى: .. فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي .. [المستدرك].
فأقول مستعيناً بالله سبحانه وتعالى استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به:
الْعِصْـمَةَ لغة: هي السَّلامَةُ مِنْ الشَّيْءِ، وشرعاً: هي كفُّ الشيء عن المعصوم ( كما في قول الله تعالى: .. وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. [المائدة:67] )، واصطلاحا: هي تَهَيُّؤُ الْعَبْـدِ لِلْمُوَافَقَةِ مُطْلَقـاً، فتكونُ كَافَّةُ أَعْمَالِهِ سَالِمَةً مِنَ المُخَالَفَاتِ.
والقرآن والسنة ناطقان بإثبات " عصمة الأولياء رضي الله تعالى عنهم ": قال الله تعالى: وهو يتولى الصالحين [الأعراف:196]؛ فلما تولى سبحانه وتعالى المؤمنين جملة دل قوله هذا على تخصيص الصالحين عمن دونهم، ولما نظرنا! وجدنا أن من خصائص طبقةٍ منهم: " العصمة " التي أشار إليها الله تعالى بقوله: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؛ إذ " نفي الخوف والحزن " مطلقاً: إثبات للعصمة، لأن السلامة من أسباب المنفي ( وهي: الذنوب والعيـوب ) شرط لوقوعه، وهو ما بيَّنَته السُّـنةُ الشريفةُ نصّاً، كما سأذكره في موضعه بعون الله تعالى.
وباعتبار " عموم اللفظ " في " آية الأولياء "، يمكن حمل النص على الولاية عموماً، وهي ثلاث مراتب:
الولاية الكبرى: وهي الخِلافة، فيكون نفي الخوف والحزن عن أهلها للحفظ الوهبي، وهو العصمة.
وهو ما نص عليه سيدُنا رسـولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ما بعثَ اللهُ من نبيٍّ ولا استخلفَ مِن خليفـةٍ إلا كانت له بِطانتـان: بِطانةٌ تأمرُهُ بالمعروفِ وتحُضُّه عليه، وبِطانةٌ تأمره بالشّرِّ وتحضُّه عليه، فالمَعْصُومُ من عَصَمَ اللهُ تعالى [البخاري]؛ وفيه تصريحٌ بثبوت العِصمة للأولياء المستخلفين رضي الله تعالى عنهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في [ الفتح ]:" قوله [ أي: الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه ] .. ( المعصوم من عصَم اللهُ ) أي: مَن عَصَمَه اللهُ بأن حماه من الوقوع في الهلاك أو ما يجر إليه .. وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: حفظهم من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفسية والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة، والفرق بينهم وبين غيرهـم: أن العصمة في حقهم بطريق الوجوب وفي حقِّ غيرهم بطريق الجواز "اهـ
فقوله " في حق غيرهم بطريق الجواز ": نص على إثبات وقوعها لغيرهم وتمييزها في الرتبة.
قلت: ومعنى "الوجـوب" بحق الأنبياء عليهم السلام: أنه لا يكون نبي إلا معصوماً.
ومعنى "الجـواز" في حق الأولياء رضي الله تعالى عنهم: أنه يكون وليٌّ ليس معصوماً، أي: أن وقوع العصمة ليست شرطاً في الولاية، وإنما هي فضل يختص الله تعالى به من شاء من أوليائه الكرام رضي الله تعالى عنهم، وهم: أهل الولاية الكبرى؛ على ما سأبينه في التصريح:
وصَرَّحَ بمعناه فيما يرويه عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ: لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافـل حتى أحبَّـه، فإن أحببتَه: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها وفي روايـة: وقلبه الذي يعقل به .. الخبر، وفي رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق .. ؛ إذ تصـور المخالفة ممن كـان الله تعالى له كذلك محـال، بل لو حُمل الخبر على غير معنى العصمة لكان لغـواً.
ومن ثم، قال الإمام الكلاباذي رضي الله تعـالى عنه في [ معاني الأخبار ]:" أي: كنت حافظـاً له: أعصمه وأعصم جوارحه ظاهراً وباطناً أن يتصرف إلا في نجـاتي؛ لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه "اهـ
قلت: وقد تقدم من كلامه رضي الله تعالى عنه ما يزيل شبهة " زوال هذه العصمة بعـد وقوعها "، وهو ما بيَّنتُه مُفَصّلاً في غير هذا الموضع.
وحاصله: أن ما كان مقتضاه " محبة الله تعالى " يستحيل زواله بعد حدوثه، لاستلزام ذلك التغيّرَ، والتغيّرُ مستحيل على الله تعالى.
وإن محبة الله تعالى عصمة للمحبوب، كما في الخبر الصحيح: إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا .. [الترمذي والحاكم والبيهقي]؛ ومن ثم نقـل الإمام النـووي رضي الله تعالى عنه في شرح مسلم عن العلماء قولهم:" محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته، وإنعامه عليه ورحمته، وبغضه إرادة عقابه أو شقاوته ونحوه "اهـ
وقد ثبت: أن " المحبة ": إن تعلقت بالأحباب عُصِموا في الظاهر والباطن من الإذناب، وإن تعلقت بالأسباب _ كما في قول الله تعـالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقـرة:222] _ عُصِمَ المُتَسَبِّبُ باعتصامه بها من العذاب.
وخلاصة ذلك: أن العبد لا يزال معصوماً بفعله، حتى إذا بُلِّغَ مقامَ المحبة صار معصوماً بفاعله، وما يلقَّاها إلا الذين صبروا وما يُلقَّاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت:35].
ومما أُثِرَ في هذه العِصمة غير ما تقدم:
قول الإمام ذو النون رضي الله تعالى عنه في وصف هذه الولاية:" الولي: من توالت ولايته، وتولى الله عليه حركاته وأنفاسه، وقطعه عن الخلائق أجمع وزَهّدهم فيه، وأظهر عليه بركات نظره وسعته "اهـ
قول الإمام أبو عثمان المغربي رضي الله تعالى عنه:" لا يكون الوليُّ مفتوناً في ولايته "اهـ
قول أبو عثمان النيسابوري رضي الله تعالى عنه:" حُقَّ لمن أعزَّه اللهُ بالمعرفة ألا يُذِلّه بالمعصية "اهـ[طبقات:173].
قول الإمام السلمي رضي الله تعالى عنه في "مسألة درجات الصادقين":" وإذا أظهر ولياً من أوليائه للخلق أسقط عنه محلّ الفتنة، فلا يكون فاتناً ولا مفتونا "اهـ
قول الإمام عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه في [الغنية] عمن نعتهم بـ" الأولياء المتحققين رضي الله تعالى عنهم ":" جعلهم ربي جواسيس القلوب والأمناء على السرائر والخفيـات وحرسـهم من الأعـداء في الخلوات والجلوات لا شيطان مضـل ولا هوى متبع يميل بهم إلى الضلالات؛ قال الله عز وجل: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الحجر 42/الإسراء:65] ولا في نفس أمارة بالسوء، ولا شهوة غالبة متبعة تدعوه إلى اللذات المردية في الدركات المخرجة من أهل السنة والجماعات؛ قال الله عز من قائل: كذلك لنصرف عنـه السوءَ والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:24] فحرسـهم ربي، وقمع رعونات نفوسهم وضراوتها بسلطان الجبروت فثبتهم في مراتبهم ووفقهم للوفاء بشرطه "اهـ
وقال في [الفتح الرباني]:" أولياء الله عزَّ وجلَّ متأدبون بين يديه: لا يتحركون حركة ولا يخطون خطوة إلاّ بإذن صريح منه لقلوبهم .. "اهـ
وقال أيضاً:" آحـاد أفراد من هذا الجنس يردّهم إلى الخلق مع الحفظ الكليّ والسـلامة الكلية، يوفقهم لمصالح الخلق وهدايتهم "اهـ
وقيل:" إذا بلغ العبد مقام المعرفة أوحى الله إليه بخواطره وحرس سرّه أن يسنح فيه غير خاطر الحق "اهـ
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رضي الله تعالى عنه في [قواعد الأحكام]:" الأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وُصِفَتْ بِالْقُدْسِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لِمَنْ حَلَّ بِهَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا "اهـ
قال الراغب الأصفهاني في [تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين]:" فالمتدرب في فعل الخير المتقوي فيه يصير بحيث يكون له من الله تعالى واقية تحفظه عن الأفعال القبيحة وتحثه على الأفعال الحسنة. وهذا معنى العصمة وعلى ذلك نبه الله تعالى في صفة أولياءه بقوله: أولئك كُتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه . وقال تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون "اهـ
الولاية الوسطى: وهي الوراثـة، فيكون نفي الخوف والحزن عن أهلها للحفظ التوفيقي، وهو اصطلاحاً: تقوية العبد على الموافقةِ وسرعةِ الإنابةِ إن غُلب على المعصية فتكون كافَّةُ أعمالِهِ سالمةً من المخالفات عادةً، فإن غُلِبَ على معصية وُفِّقَ للإنابة من قريب.
قال سلطان العلماء العـز بن عبد السـلام رضي الله تعالى عنه في [قواعد الأحكام]:" فَإِنْ قِيـلَ: قَدْ خَالَفَ كَثِيرٌ مِمَّنْ اشْـتَهَرَ بِالْوِلايَـةِ بَعْضَ أَدَبِ الشَّرْعِ، فَهَـلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وِلايَتِهِ؟
قُلْنَا: أَمَّا مَا تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَلا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا مَا تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ:
فَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا لَمْ يَقْدَحْ فِي وِلايَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْوِلايَةِ فِي حَالِ مُلابَسَتِهِ دُونَ مَا مَضَى.
وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَقَدْ غَلَّظَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الذَّنْبِ الصَّغِيرِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يُسْقِطُ الْوِلايَةَ بِصَغِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْوَلِيُّ! وَهَؤُلاءِ جَهَلَةٌ؛ لأَنَّ اجْتِنَابَ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ فَضْلاً عَنْ الأَوْلِيَاءِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا عَرَفَ صَغِيرَةَ الْوَلِيِّ أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِلايَةِ وَطَعَنَ فِيهِ، وَرُبَّمَا هَجَرَهُ وَرَفَضَهُ وَقَلاهُ وَأَبْغَضَهُ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ بِإِبَاحَةِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ لَهُ مَا لَمْ يُحِلَّهُ لِغَيْرِهِ! وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالإِيجَابِ إلا لِعُذْرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَهَذَا أَشَرُّ الأَقْسَامِ.
وَأَشَرُّ مِنْهُ: مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ قُرْبَةٌ لِصُدُورِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَلِيِّ!
وَأَسْعَدُهُمْ: مَنْ اعْتَقَدَ وِلايَتَهُ مَعَ ارْتِكَابِهِ لِذَلِكَ الذَّنْبِ الصَّغِيرِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ؛ فَقَدْ عَصَى آدَم وَدَاوُد وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَخْرُجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَتِهِ عَنْ حُدُودِ وِلايَتِهِ. وَلَوْ رُفِعَتْ صَغَائِرُ الأَوْلِيَـاءِ إلَى الأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ لَمْ يَجُزْ تَعْزِيرُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَقْبَلُ عَثْرَتَهُمْ وَيَسْتُرُ زَلَّتَهُمْ ، فَهُمْ أَوْلَى مَنْ أُقِيلَتْ عَثْرَتُهُ، وَسُتِرَتْ زَلَّتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ غِيبَةُ الأَنْبِيَاءِ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ؟
قُلْنَا: إنْ ذُكِرَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا لَهُمْ وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ حُرِّمَ وَكَانَ كُفْرًا؛ فَإِنَّ اللهَ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا وَإِزْرَاءً عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ، وَإِطْمَاعًا فِي التَّوْبَةِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ مُسَامَحَةَ الأَكَابِرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَامَحَةَ الأَصَاغِرِ أَوْلَى، لأَنَّ الذَّنْبَ الصَّغِيرَ مِنْ الأَمَاثِلِ كَبِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَوْله تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ .
وَإِنْ ذُكِرَ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ لأَجْلِهِ فَلا بَأْسَ بِهِ، بَلْ رُبَّمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ وَيُحَثُّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُذْنِبِينَ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "اهـ
قلت: وهذا كلام نوافق عليه إلا " اعتبار أن ما صدر من ساداتنا الأنبياء عليهم السلام معصية شرعية "، ولو صغيرة؛ فنحن نعتقد: أن العصيان المضاف إلى الأنبياء عليهم السلام لغوي لا شرعي، وأن ما أشبه منه مخالفة الطلب كان من باب الاجتهاد في النص المحمول على غير الجزم، كما بينته بعون الله تعالى في غير هذا الموضع.
وقد تقدم بعض الآثار في هذه الرتبة.
ويجمع هاتين الرتبتين: قول الله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]؛ على أن الصابرين: هم أصحاب الولاية الوسطى، والمحظوظين: هم الكبراء رضي الله تعالى عنهم؛ وذلك أن رتبتهم وهبية لا كسبية.
الولاية الصغرى: وهي الاتباع، فيكون نفي الخوف والحزن للحفظ الجزائي، وهو: تقوية العبد على الموافقة لصالح أعماله، فهو محفوظ بعمله.
وإليه الإشارة بكلامي المتقدم في المحبة ( وإن تعلقت بالأسباب _ كما في قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] _ عُصِمَ المُتَسَبِّبُ باعتصامه بها من العذاب .. ).
قلت: وفي هذا القدر كفاية لمن طلب الحق بالهِداية، وقد ظهر فيه الحق وزهق الباطل والغِواية، كما تبين فيه " أحكام الرتبة " في البداية والنهاية.
ومما ينبغي التذكير به هاهنا: أن العصمة التي نبحثها هي السلامة من اقتراف المخالفات؛ بيانها:
قيل للإمام الجنيد رضي الله تعالى عنه: أهل المعرفة بالله يصلون إلى " ترك الحركات " من باب البرّ والتقوى إلى الله عز وجلّ؟! فقال:" إن هذا قول قوم تكلموا بإسـقاط الأعمال! وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرَّة إلا أن يُحال بي دونها "اهـ[القشيرية:430].
وقيل لجعفر بن نصر: إن بعض الناس يجالسون النساء ويقولون: نحن معصومون في رؤيتهن؟! فقال:" ما دامت الأشباح باقية، فإن الأمر والنهي باقٍ، والتحليل والتحريم مخاطبون به، ولن يجترئ على الشبهات إلا مَن تعرَّض للمُحرَّمات "اهـ[القشيرية:438].
وقال أحمد النوري:" مَن رأيته يدَّعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن حـدّ العلم الشرعي فلا تقربَنَّ منه "اهـ[القشيرية: 439].
وقال معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه:" لولا خروج الدنيـا من قلوب العارفين ما قدروا على فعل الطاعات، ولو بقي من حبّها ذرّة في قلوبهم ما سلمت لهم سجدة واحدة "اهـ[الأنوار:41].
وقال رضي الله تعالى عنه أيضاً:" العارف يرجع إلى الدنيا اضطراراً، والمفتون اختياراً "اهـ[الأنوار:41].
فائدة ( في وقوع الخطأ ):
واعلم! أن الخطأ ليس ذنباً؛ قال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصـاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطـأ فله أجر واحـد [متفق عليه]؛ إذ لو كان ذنبـاً لترتب عليه الإثم لا الأجر، فإن وقع للأوليـاء رضي الله تعالى عنهم لم يتعارض مع حفظهم.
فإن قيل: هل يجوز أن يكون الولي محفوظاً عن الخطأ؟
قلنا: نعم؛ لأنه ممكن عقلاً، ولم يرد في الشرع مانع.
تنبيه ( لعلة بحث العصمة الكريمة وثمرتها ):
واعلم! أن مسألة " عصمة الأولياء الكرام " قدس الله تعالى أسرارهم البهية: إنما أبحثها من الناحية العلمية، لا الشخصيَّة؛ فلست أعني عصمة شخص بعينه، ولا عصمة جميع الأولياء رضي الله تعالى عنهم، بل هو: من جهة إثبات ما أثبته الشرع: أن الله تعـالى يعصم من شاء من عباده من نبي أو ولي.
وعصمة الأولياء رضي الله تعالى عنهم: نوع من النعمة الخاصَّة، لا تسقط عنهم تكليف، ولا توجب لهم حقاً زائداً على الناس، وإنما ثمرتها: إسقاط كلفة السلامة من المخالفات لجمع هِمتهم على تكاليف مقامهم.
والعصمة: نعمةٌ لا تسلب من تجرد عنها رتبته ومقامه في الدعوة إلى الله تعالى تسليكاً أو تبليغاً، ولا هي مفتاح باب الدعوة إرشاداً وتعليماً، بل هي زيادة لرفع الدرجة والاستخلاص، وتحلية العبادة بكمال الإخلاص.
والحمد لله رب العالمين.
خادم الحق
طارق بن محمد السَّعْدِي
المصدر