Wahabi: Hizbut Tahrir Neo Muktazilah
Wahabi: Hizbut Tahrir Neo Muktazilah demikian pendapat Nashiruddin Al-Albani tentang Hizbut Tahrir karena HT lebih mengutamakan akal dari nash Quran dan Sunnah.
Wahabi: Hizbut Tahrir Neo Muktazilah demikian pendapat Nashiruddin Al-Albani tentang Hizbut Tahrir karena HT lebih mengutamakan akal dari nash Quran dan Sunnah.
حزب التحرير «المعتزلة الجدد»
للإمام محمَّد ناصر الدِّين الألباني
أمامي سؤالان يلتقيان في نقطة واحدة؛ هي عن حزب التحرير.
والسؤال الأول يقول:
قرأت كثيراً عن حزب التحرير، وأعجبت بكثير من أفكارهم، نريد منك أن تشرح لنا أو تفيدنا بنبذة عن هذا الحزب؟
والسؤال الثاني
يدندن حول الموضوع، ولكنَّ السائل يطلب مني شرحاً موسعاً عن حزب التحرير، وأهدافه، وأفكاره، وهل تغلغلت في العقيدة؟ وللجواب عن هذين السؤالين، أقول: إنَّ أي حزب أو تكتل من التكتلات الإسلاميَّة، لم تقم جماعتها ولم تقم أحزابها على كتاب الله وعلى سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فضلاً عن إقامتها على منهج السَّلف الصَّالح؛ فهو في ضلال مبين، ولا شك أن أي حزب لا يقوم على هذه المصادر الثلاثة فستكون عاقبة أموره خسراً، مهما كان مخلصاً في دعوته، وبحثي هذا إنَّما هو عن هذه الجماعات الإسلاميَّة، الَّتي يفترض أن تكون مخلصة لله عزَّ وجلَّ، وناصحة للأُمَّة، كما جاء في الحديث الصحيح: «الدِّين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله!؟ قال: «لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»
(1) ، ذلك لأنَّ الأمر كما قال ربنا عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ [العنكبوت: 19]. فمن كان جهاده لله، وعلى كتاب الله، وعلى سُنَّة رسول الله، وعلى منهج السَّلف الصَّالح؛ فهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ [محمَّد: 7]، فمنهج السَّلف الصَّالح - هذا الأصل العظيم - لا بدَّ لكل جماعة مسلمة أن تقوم دعوتها عليه، وبناءً على معرفتي بكل الجماعات والأحزاب القائمة اليوم على الأرض الإسلاميَّة أقول: إنَّهم جميعاً إلَّا جماعةً واحدةً، ولا أقول إلَّا حزباً واحداً؛ لأنَّ هذه الجماعة لا تتحزب، ولا تتكتل، ولا تتعصب إلَّا للأصول المذكورة آنفاً؛ ألا وهي كتاب الله وسنَّة رسول الله، ومنهج السَّلف الصَّالح، فأنا أعرف جيداً أن كل الجماعات سوى هذه الجماعة لا يدعون إلى الأصل الثالث، وهو أساس متين، وإنَّما يدعون إلى الكتاب والسُّنَّة فقط! ولا يدعون معهما إلى منهج السَّلف الصَّالح، وسيتبين لنا هذا في النصوص الشرعيَّة المنقولة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كتاباً وسنَّة. وفي واقع الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة، بل والفرق الإسلاميَّة، من يوم أن بدأ الخلاف يمد رقبته، أو يظهر قرنه بين الجماعات الإسلاميَّة الأولى، أي من يوم خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن يوم دعا الجعد بن درهم بدعوة المعتزلة، إلى غير ذلك من الفرق المعروفة أسماؤها قديماً، والَّتي تجددت حديثاً بأسماء حديثة، هذه كلها سواء ما كان منها قديماً أو حديثاً، لا يوجد فيها فرقة تقول وتعلن أنَّها على منهج السَّلف الصَّالح، كل هذه الفرق على ما بينها من اختلاف - سواء كان هذا الاختلاف في العقائد، والأصول، أو كان هذا الاختلاف في الأحكام والفروع - كلهم يقولون: نحن على الكتاب والسُّنَّة، ولكنَّهم يفترقون عنا فلا يقولون قولتنا الَّتي هي تمام دعوتنا (وعلى منهج السَّلف الصَّالح)، وعلى هذا؛ فمن الَّذي يحكم بين هذه الفرق، والَّتي تنتمي على الأقل كلاماً ودعوة إلى الكتاب والسُّنَّة، وما هو الحكم الفصل بين هؤلاء، وكلهم يقولون كلمة واحدة؟
الجواب:
لا سبيل للحكم على جماعة منهم بأنها على الحق إلَّا إذا كانت تتبنى منهج السَّلف الصَّالح. هنا - كما يقال في عصرنا الحاضر - سؤال يطرح نفسه بنفسه، وهو: من أين جئنا بهذه الضميمة: (وعلى منهج السَّلف الصَّالح)؟
والجواب:
أننا جئنا بها من كتاب الله، وحديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وممَّا جرى عليه أئمة السَّلف - من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من أهل السُّنَّة والجماعة كما يقولون اليوم -، وأول ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115]، فقوله عز وجل: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين﴾ عطف على قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول﴾ فلو أن الآية كانت: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى … نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾، لكانت دالة على دعوة أولئك الفرق القديمة والحديثة، لأنَّهم يقولون: نحن على الكتاب والسُّنَّة، وإن كانوا لا يلتزمون بالكتاب والسُّنَّة عملياً، فهم لا يردون المسائل الَّتي يتنازعون فيها إلى الكتاب والسُّنَّة، كما يقول تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59] فإذا دعوت أي واحد من جماهير علمائهم ودعاتهم إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله، قال: إنَّما أتبع مذهبي! هذا يقول: مذهبي حنفي، وهذا شافعي، إلى آخره، فهؤلاء أقاموا تقليدهم للأئمة مقام اتباعهم لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فهل يا ترى قد طبقوا هذه الآية؟ كلا، ثمَّ كلا. فعلى هذا، ما هي الفائدة من ادعائهم أنَّهم على الكتاب والسُّنَّة، ما داموا لم يطبقوهما عملياً؟! هذا مثال لا أقصد به المقلدة، وإنَّما أقصد به الدُّعاة الإسلاميين الذين يفترض فيهم ألا يكونوا من المقلدين؛ الذين يؤثرون أقوال الأئمة غير المعصومين على أقوال الله ورسوله المعصوم، فلم يذكر الله عزَّ وجلَّ تلك الجملة في منتصف تلك الآية عبثاً، وإنَّما ليؤصِّلَ بها أصلاً، ويقعِّدَ بها قاعدة، وهي: أنَّه لا يجوز لنا أن نتَّكِل في فهم كتاب ربنا وسُنَّة نبينا، على عقولنا المتأخرة زمناً، والمتخلفة فهماً، وإنَّما يكون المسلمون متبعين للكتاب والسُّنَّة تأصيلاً وتقعيداً، إذا أضافوا إلى الكتاب والسُّنَّة: ما كان عليه السَّلف الصَّالح؛ لأنَّ هذه الآية تضمنت النص على أنَّه يجب علينا ألا نخالف الرسول، ولا نشاققه، كما أنَّها تضمنت النص على ألا نخالف سبيل المؤمنين، ومعنى ذلك: أنَّه يجب علينا اتباع الرسول عليه السَّلام، وترك مشاققته، كما يجب علينا اتباع سبيل المؤمنين وعدم مخالفته.
فمن هنا - أوَّلاً - نقول: بأنَّه على كل حزب، أو جماعة إسلامية، أن تصحح أصل منطلقها؛ وهو أن تعتمد على الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه سلف الأُمَّة الصَّالح، وهذا القيد لا يتبناه - مع الأسف - حزب التحرير، ولا الإخوان المسلمون، ولا أمثالهم من الأحزاب الإسلاميَّة، أما الأحزاب الَّتي أعلنت محاربة الإسلام - كالبعثيَّة والشيوعيَّة -، فليس لنا معهم كلام الآن، وإذا كان الأمر كذلك؛ فينبغي على كل مسلم ومسلمة أن يعلم أن الخط إذا اعوجَّ من رأسه ابتعد عن الخط المستقيم، وكلما أراد أن يمشي قدماً ازداد انحرافاً، فالخط المستقيم هو الَّذي قال عنه رب العالمين في القرآن الكريم: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153] هذه الآية الكريمة صريحة الدَّلالة، وقطعية الدَّلالة - كما يحب ويلهج حزب التحرير من بين الأحزاب الأخرى في دعوته، وفي رسائله ومحاضراته -، قطعية الدَّلالة؛ لأنَّها تقول: إن السبيل الموصل إلى الله هو واحد، وأن السبل الأخرى هي الَّتي تبعد المسلمين عن سبيل الله ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153] وقد زاد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هذه الآية بياناً وتوضيحاً، كما هو شأن سنته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دائماً وأبداً، كما ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم، حينما خاطب نبيه بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ الآية [النحل: 44]، سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هي البيان الكامل للقرآن، والقرآن هو الأصل، وهو الدستور للإسلام.
ولنقرب الأمر للأذهان أقول: القرآن بالنسبة للنظم الأرضية = كالدستور فيها، والسُّنَّة بالنسبة لهذه القوانين الأرضية = كالقانون الموضح للدستور، لذلك كان من المتفق عليه من المسلمين قاطبة، أنَّه لا يمكن فهم بيان القرآن إلَّا ببيان الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا أمر مجمع عليه، لكن الشيء الَّذي اختلف المسلمون عليه، واختلفت آثارهم من بعد ذلك، هو: أنَّ كل الفرق الضَّالة القديمة لم ترفع رأسها إلى هذا القيد الثالث؛ وهو اتباع السَّلف الصَّالح، فخالفوا تلك الآية الَّتي ذكرتها تكراراً ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فخالفوا سبيل الله؛ لأنَّ سبيل الله واحد؛ وهو ما جاء ذكره في الآية السابقة: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه﴾، قلت: إنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد زاد هذه الآية بياناً وإيضاحاً، حينما روى أحد أصحابه عليه السَّلام، المشهورين بالفقه = ألا وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قال: «خط لنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوماً خطاً بيده مستقيماً في الأرض، ثمَّ خط حوله خطوطاً قصيرة، ثمَّ أشار إلى الخط المستقيم وقرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه﴾ قال عليه السَّلام وهو يمر بأصبعه على الخط المستقيم: «هَذَا صِرَاط الله»، ثمَّ أشار إلى الخطوط القصيرة من حوله فقال: «هذه طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو النَّاس إليه»، هذا الحديث يفسره حديث آخر، وهو ما رواه أهل السنن - كأبي داود، والترمذي، وأمثالهما من أئمة الحديث - من طرق عديدة، عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم -، كأبي هريرة، ومعاوية، وأنس بن مالك، وغيرهم - بسند جيد، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلَّا واحدة» قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي ما أنا عليه وأصحابي». هذا الحديث يوضح لنا سبيل المؤمنين المذكور في هذه الآية، من هم المؤمنون المذكورون فيها؟ هم الذين ذكرهم الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حديث الفرق، حينما سئل عن الفرقة النَّاجية، وعن منهجها، وعن صفتها، عن منطلقها، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «ما أنا عليه وأصحابي»، فيجب الانتباه لهذا، لأنَّ جواب الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام إن لم يكن وحياً من الله فهو تفسير من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لسبيل المؤمنين المذكور في قول الله عزَّ وجلَّ، وهو المقصود بالآية: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث إنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكر الرسول في الآية وذكر سبيل المؤمنين، والرسول عليه الصَّلاة والسَّلام جعل علامة الفرقة النَّاجية - الَّتي ليست من الفرق الاثنتين والسبعين الهالكة - أنَّها الَّتي تكون على ما كان عليه الرسول وأصحابه، فنجد في هذا الحديث ما وجدناه في الآية، كما أنَّ الآية لم تقتصر على ذكر الرسول، كذلك الحديث لم يقتصر على ذكر الرسول فقط، وإنَّما ذكرت الآية سبيل المؤمنين، كذلك ذكر الحديث أصحاب النبي الكريم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فالتقى الحديث مع القرآن، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»
(2) .
كثير من الفرق القديمة والحديثة لا تنتبه لهذا القيد المذكور في هذه الآية، وفي هذا الحديث = حديث الفرق الضَّالة، حيث جعل من علامة الفرقة النَّاجية أنَّها تكون على ما كان عليه الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه، وقريب من هذا الحديث حديث العرباض بن سارية - وهو من أصحاب النَّبي ومن أهل الصُّفة، الذين كانوا فقراء يلزمون المسجد، ويلزمون حلقات الرسول عليه السَّلام، من أجل تلقي العلم من كتاب الله، ومن فم رسول الله غضًّا طريًّا - قال العرباض هذا: «وعظنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنَّها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله؛ قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن ولِّي عليكم عبد حبشي، وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) ، الشاهد من هذا الحديث أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يقتصر في حض المسلمين حين يختلفون على سنته، بل أجاب بأسلوبه الحكيم، ومن أحكم منه بعد أحكم الحاكمين؟ لذلك حينما قال: «وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» أجاب عن سؤال مفروض، هو: ما نفعل يا رسول الله؟ فقال: «عليكم بسنتي»، لم يكتف عليه السَّلام بأمر الذين يعيشون في وقت الاختلاف بقوله: «عليكم بسنتي»، وإنَّما عطف على ذلك فقال: «وسنة الخلفاء الراشدين» إذاً ليضم المسلم الناصح لنفسه في عقيدته بأنَّه لا بدَّ من الرجوع إلى سبيل المؤمنين، بالإضافة إلى الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، بدلالة الآية، وحديث الفرق، وحديث العرباض بن سارية.
هذه حقيقة مع الأسف الشديد يغفل عنها كل الأحزاب الإسلاميَّة المعاصرة، كشأن من سبقها من الفرق الضَّالة، وبخاصة منها حزب التحرير، الَّذي يتميز عن أي حزب إسلامي آخر أنَّه يقيم للعقل البشري وزناً أكثر ممَّا أقامه الإسلام له، نحن نعلم يقيناً أن الله عزَّ وجلَّ حينما يكلم النَّاس بكلامه، إنَّما يخاطب العقلاء، ويخاطب العلماء، ويخاطب الذين يتفكرون، ولكننا نعلم أن العقل البشري مختلف؛ فالعقل عقلان: عقل مسلم، وعقل كافر، هذا العقل الكافر ليس عقلاً، قد يكون فيه ذكاء، ولكنَّه لا يكون عقلاً، لأنَّ العقل في أصل اللغة العربية هو الَّذي يعقل صاحبه، ويربطه، ويقيده من أن ينفلت يميناً وشمالاً، ولا يمكن للعاقل أن لا ينفلت يميناً وشمالاً إلَّا إذا اتبع كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتقيد بفهم السلف، ولذلك حكى الله عزَّ وجلَّ عن الكفار والمشركين اعترافهم يوم القيامة بأنَّهم لا يعقلون، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10] يعترفون بأنَّهم حينما كانوا في الحياة الدنيا لم يكونوا عقلاء، مع أن منهم أذكياء يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله ذلك في كتابه العزيز حيث قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾ [الروم: 7] إذاً هناك عقلان: عقل حقيقي، وعقل مجازي، فالعقل الحقيقي هو عقل المسلم الَّذي آمن بالله ورسوله، والعقل المجازي هو عقل الكفار الذين قالوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ الْسَّعِير﴾ وقال ربنا بصفة عامة عن الكفار: ﴿لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]؛ فالكفار لهم قلوب، ولكنَّهم لا يفقهون بها، أي: لا يفهمون الحق بها.
فإذا عرفنا الحقيقة، وما أظن أنَّه يختلف فيها اثنان، وينتطح فيها عنزان؛ لأنَّها صريحة في القرآن، وفي أحاديث الرسول عليه السَّلام، لكني أريد أن أتوصل من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى؛ هي نقطة البحث في هذه الشواهد والأدلة: إذا كان عقل الكفار ليس عقلاً، فعقل المسلم أيضاً ينقسم إلى قسمين: عقل عالم، وعقل جاهل، فعقل المسلم الجاهل لا يمكن أن يكون مساوياً في فهمه لعقل المسلم العالم أبداً، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] وقال أيضاً: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] إذاً لا يجوز للمسلم المؤمن بالله ورسوله حقاً أن يحكِّمَ عقله، وإنَّما يخضع عقله لما قال الله وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، من هنا نضع نقطة في دعوة حزب التحرير أنَّهم تأثروا بالمعتزلة في منطلقهم في طريق الإيمان، وطريق الإيمان هو عنوان بحث لهم في كتاب نظام الإسلام، الَّذي ألفه رئيسهم تقي الدِّين النبهاني رحمه الله تعالى، وقد التقيت به أكثر من مرة، وأنا عارف به تماماً، وعارف بما عليه حزب التحرير أحسن ما تكون عليه المعرفة، ولذلك أنا أتكلم إن شاء الله عن علم لما تقوم عليه دعوتهم، فهذه أول نقطة تؤخذ عليهم؛ أنَّهم جعلوا للعقل مزية أكثر ممَّا ينبغي، - وسأكرر هنا -: أنني لا أنفي مكانة العقل في الإسلام، ولكنَّ أقرر أنَّه ليس للعقل أن يحكم على الكتاب والسُّنَّة، وإنَّما عليه أن يخضع لحكم الكتاب والسُّنَّة، وأخبارهما، وما عليه إلَّا أن يفهم ما جاء في الكتاب والسُّنَّة؛ من هنا انحرف المعتزلة قديماً، فأنكروا حقائق شرعيَّة كبيرة وكثيرة جداً، بسبب أنَّهم سلطوا عقولهم على نصوص الكتاب والسُّنَّة، فحرَّفوها، وبدَّلوا فيها، وغيَّروا، وبتعبير علماء السَّلف: عطَّلوا نصوص الكتاب والسُّنَّة، هذه نقطة أريد أن ألفت نظر القارئ إليها؛ وهي: أنَّه ينبغي إخضاع العقل المسلم لنصوص الكتاب والسُّنَّة وفهمهما، فالحاكم هو الله ورسوله، وليس الحاكم هو عقل البشر، لما ذكرنا بأنَّ عقل البشر يختلف من عقل مسلم وعقل كافر، ثمَّ إنَّه يختلف أيضاً ما بين عقل مسلم عالم، وعقل مسلم جاهل، لذلك قال تعالى - ولا بأس من تكرار الدليل؛ لأنَّ هذا الموضوع قليلاً ما يطرق أسماع الكثير من الملايين المُمَلْيَنة من المسلمين، من الرِّجال فضلاً عن المخدَّرات من النساء، ولذلك فأنا مضطر إلى تكرير هذه النقاط، وهذه الأدلة، ومنها قوله تعالى -: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون﴾ وهنا نقف قليلاً؛ من هم العالمون؟ أهم العلماء الكفار؟ كلا؛ فنحن لا نقيم لهم وزناً؛ لأنَّهم ليسوا عقلاء، إنَّما حقيقة أمرهم أنَّهم أذكياء؛ لأنَّهم اخترعوا، وابتدعوا، وارتقوا في الحضارة المادية المعروفة لدى الجميع، كذلك العقل عند المسلمين؛ فهذا العقل ليسوا فيه سواء، فلا يستوي عقل العالم مع عقل الجاهل، وسأقول شيئاً آخر هو: أنَّه لا يستوي عقل العالم العامل بعلمه، مع عقل العالم غير العامل بعلمه، لا يستوون مثلاً، لذلك انحرفت المعتزلة في كثير من الأصول الَّتي وضعوها، مخالفين فيها طريق الشرع كتاباً وسُنةً، ومنهج السَّلف الصَّالح، وهذه هي النقطة الأولى؛ وهي اعتماد حزب التحرير على العقل أكثر ممَّا ينبغي.
النقطة الثانية، وهي تتفرع في ظنِّي من النقطة الأولى:
لقد قسَّموا نصوص الكتاب والسُّنَّة إلى قسمين؛ من حيث روايتها، ومن حيث دلالتها.
أمَّا من حيث روايتها، فقالوا: الرواية قد تكون قطعية الثبوت، وقد تكون ظنية الثبوت.
أمَّا الدَّلالة؛ فهي كذلك: قد تكون قطعية الدَّلالة، وقد تكون ظنية الدَّلالة.
لا نناقش في هذا الاصطلاح، فإنَّ الأمر كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح، لكننا نناقش فيما إذا ما رتبوا على هذا الاصطلاح مفارقات تخالف ما كان عليه المسلمون الأولون، ومن هنا يظهر للجميع أهمية سبيل المؤمنين، لأنَّها قيد يمنع من أن ينفلت العالم المسلم - فضلاً عن الجاهل المسلم - من نص الكتاب والسُّنَّة، برجوعه لمثل هذا الاصطلاح الَّذي لا يجوز أن يكون له الثمرة التالية، وهي: أنَّهم قد رتبوا على ذلك الاصطلاح ما يلي:
فقالوا: إذا جاء النص في القرآن الكريم - وهو بلا شك في الاصطلاح السابق ذكره قطعي الثبوت -، وإذا جاء النص قطعي الثبوت ظنِّي الدَّلالة، فلا يجب على المسلم أن يأخذ بما فيه من المعنى؛ لأنَّه ظنِّي الدَّلالة، فلا يجوز له أن يبني عقيدته على نص قطعي الثبوت، ولكنَّه ظنِّي الدَّلالة وكذلك العكس عندهم تماماً، إذا جاء الدليل قطعي الدَّلالة، لكن ليس قطعي الثبوت - كما هو شأن الغالبيَّة العظمى من الأحاديث - فإنَّهم لا يأخذون منه عقيدة، ومن هنا جاؤوا بعقيدة لا يعرفها السَّلف الصَّالح، ووضعوا اصطلاحاً لهم، وكتبهم الَّتي سطروا فيها هذا معروفة، وأعني بكتبهم القديمة؛ لأنَّهم قد أجروا فيها تعديلاً، وأنا من أعرف النَّاس بهذا التعديل، لكنَّه في الواقع تعديل شكلي، وهو لو سلمنا به؛ فإنَّما يدلّ أنَّ القوم كانوا حتَّى في عقيدتهم مضطربين، حيث قالوا: إن العقيدة لا تثبت إلَّا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدَّلالة، وهي أن الحديث الصحيح رواية، والقطعي دلالة، لا يؤخذ منه عقيدة!
فقلنا لهم فيما ناقشناهم وجادلناهم: هذه العقيدة من أين جئتم بها؟ وما الدليل على أنَّه لا يجوز للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح لم يصل إلى درجة التواتر، ولا على نص متواتر ولكنَّه ليس قطعي الدَّلالة من أين جئتم بهذا؟
فاضطربوا بالجواب، والبحث هنا طويل وطويل جداً، واستدلوا بمثل قوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: 23]، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: 36] وهذا البحث يخرجنا عما نحن بصدده من بيان ما نعرفه عن حزب التحرير؛ لأنَّ مناقشة هذه القاعدة وبيان ما عليها من اعتراضات، وأنَّها أقيمت على دليل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء (4) ، ولذلك نكتفي بما بيناه حول قاعدتهم الضَّالة، والَّتي تقول: ليس للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح، ليس قطعي الثبوت، لكنَّه قطعي الدَّلالة!! فمن أين لهم هذا؟ لا دليل عليه من الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه السَّلف، بل ما كان عليه السلف ينقض هذا، وهذه الفكرة تبناها بعض الخلف - وهم المعتزلة قديماً، وأتباعهم المعاصرون في العقيدة على الأقل، وهم: (حزب التحرير) - أقول: كلنا يعلم أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حينما أرسله الله عزَّ وجلَّ بشيراً ونذيراً، وقال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] كان تبليغه عليه الصَّلاة والسَّلام رسالته إلى النَّاس تارة بشخصه؛ حينما كان يحضر ندواتهم، ومجتمعاتهم، فيخاطبهم مباشرة، وتارة يرسل رسولاً من طرفه، يدعو المشركين إلى اتباع دعوة النبي الكريم، وتارة يرسل خطاباً - كما هو معلوم من السيرة - إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك فارس، وإلى المقوقس، وإلى أمراء العرب، كما هو مشروح في كتب السيرة، ومن ذلك أنَّه أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأرسل إلى الروم دحية الكلبي، وهؤلاء أفراد لا يمثل خبرهم الخبر القطعي؛ لأنَّهم أفراد، فمعاذ في مكان، وأبو موسى في مكان، وعليٌّ في مكان، وقد يختلف أيضاً الزمان، وهناك حديث في «الصَّحيحين»، أخرجاه بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما أرسل معاذاً إلى اليمن، قال له: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله» الحديث، فمن يشك من المسلمين أن هذه الشهادة هي الأصل الأول من الإسلام؟ أي: هي العقيدة الأولى الَّتي يبنى عليها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله؟ فقد ذهب معاذ - رضي الله عنه - وحده مبلغاً، وداعياً المشركين أن يؤمنوا بدين الإسلام، ترى هل قامت الحجة بمعاذ بن جبل حينما دعا المشركين إلى الإسلام، وأمرهم أن يقيموا خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنَّها ركعتان وأربع وثلاث، إلى آخر ما هناك من تفصيلات معلومة لدينا، والحمد لله، ويأمرهم بالزكاة، وإلى آخر تفاصيل الزكاة؛ فيما يتعلق بالذهب والفضة، وفيما يتعلق بالثمار، والبقر، والجمال، وإلى آخره... والسؤال الآن: هل قامت حجة الإسلام على أولئك المشركين بإرسال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معاذاً وحده؟
على مذهب حزب التحرير - مع الأسف - لم تقم الحجَّة! لأنَّه فرد يجوز عليه الكذب، كما يقولون! فإذا قلنا بأنَّ الكذب بعيد عنه، فلا أقل أن يقال: يجوز عليه الخطأ والنسيان!! لقد جاؤوا بفلسفة: أن الحديث الصحيح لا يجوز أن نأخذ منه عقيدة إسلامية! إذاً اليمانيون حينما دعاهم معاذ إلى العقيدة، لم يقم عليهم الحجَّة؛ لأنَّه فرد، وهؤلاء اليمانيون كان منهم وثنيون، ونصارى، ومجوس، وعلى قاعدة حزب التحرير؛ لم تقم عليهم حجة الله في العقائد! أمَّا في الأحكام؛ يقول حزب التحرير كما يقول عامة المسلمين: نعم حديث الآحاد تثبت فيه الأحكام الشرعيَّة، أمَّا العقائد الإسلاميَّة فلا تثبت بحديث الآحاد! هذا معاذ يمثل عقيدة الآحاد في الإسلام كله؛ أصولاً وفروعاً عقائد وأحكاماً، فمن أين جاؤوا بهذا التفصيل؟! ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم: 23] وهنا أود أن أنهي البحث المتعلق بحديث الآحاد، الَّذي ضرب به حزب التحرير عشرات الأحاديث الصَّحيحة بقاعدته الواهنة، الَّتي ليس لها من قرار؛ وهي أن أحاديث الآحاد لا تقوم بها عقيدة! أود أن أنهي البحث بهذه النكتة التالية:
ذكر أحدهم: أنَّ أحد الدُّعاة من حزب التحرير ذهب إلى اليابان، فألقى عليهم بعض المحاضرات، ومنها: طريق الإيمان، وفيها أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، وكان هناك في الحضور شاب عاقل، كيِّس فَطِنٌ، قال للمحاضر: يا أستاذ! أنت جئت داعية إلى بلاد اليابان، بلاد الشرك والكفر، كما تقول؛ جئت تدعوهم إلى الإسلام، وتقول لهم: إنَّ الإسلام يقول: إنَّ العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد، وأنت تقول لنا: إنَّ من العقيدة ألا تأخذوا العقيدة من الفرد الواحد! أنت الآن تدعونا إلى الإسلام، وأنت وحدك، فينبغي عليك - بناءً على فلسفتك هذه - أن تعود أدراجك إلى بلدك، وأن تأتي بأمثالك من عشرات المسلمين الذين يقولون بقولك، فيصبح خبرك حينئذ خبراً متواتراً! فأسقط في يد المحاضر.
وهذا مثال من الأمثلة الكثيرة الَّتي تدل على سوء عاقبة من يخالف منهج السَّلف الصَّالح، لقد جاء في «صحيح البخاري»، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إذا جلس أحدكم في التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» (5) ، هذا الحديث من أحاديث الآحاد، لكنَّه من الأحاديث العجيبة الغريبة بالنسبة لفلسفة حزب التحرير، إنَّه من جهة يتضمن حكماً شرعياً، والحكم الشرعي عنده يثبت بحديث الآحاد، ومن جهة أخرى يتضمن عقيدة أن هناك في القبر عذاباً، وأن هناك فتنة الدجال، فهم لا يؤمنون بعذاب القبر، ولا يؤمنون بفتنة الدجال الأكبر؛ الَّذي حدث عنه الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «ما بين خلق آدم والساعة فتنة أضر على أمتي من الدجال» (6) ، هم لا يؤمنون بهذا الدَّجال؛ لأنَّه بزعمهم ليس حديثاً متواتراً! فنحن نقول لهم الآن: ماذا تفعلون بحديث أبي هريرة؛ فإنَّه من جهة يتضمن حكماً شرعياً، فعليكم أن تقولوا في آخر الصَّلاة: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، لكن هل تستعيذون من عذاب القبر، وأنتم لا تؤمنون بعذاب القبر؟! نقيضان لا يجتمعان!! فجاؤونا بمخلص (حيلة) من الحيل الَّتي نهى الله المسلمين عنها، قالوا: نحن نصدق بعذاب القبر، ولا نؤمن به! فلسفة غريبة عجيبة!! ما الَّذي يحملهم على ذلك؟ لقد جاؤوا بالفلسفة الأولى وتسلسلت معهم إلى فلسفات كثيرة خرجوا بها عن الصراط السوي، الَّذي كان عليه أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والحديث كما هو مبين طويل الذيل.
إنَّ من دعوات حزب التحرير الَّتي يدندنون حولها: أنَّهم يريدون أن يقيموا حكم الله في الأرض، وأحب أن ألفت النظر بأنَّ حزب التحرير ليس منفرداً في هذه الغاية، فكل الجماعات والأحزاب الإسلاميَّة تنتهي كلها إلى هذه الغاية - أي: يريدون أن يقيموا حكم الله في الأرض -، لكن السؤال: هل هذه الأحزاب الإسلاميَّة - ومن بينها حزب التحرير - على صراط الله المستقيم، مثل ما كان عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه؟ الجواب كما أشرنا دائماً:
كلٌ يدَّعي وصلاً بليلى
وليلى، لا تقرُّ لهم بذاك!
ليس في هذه الجماعات مَنْ يُقَيِّدُ فهمه للإسلام بهذا القيد؛ وهو فهم السَّلف الصَّالح، ولذلك هم بعيدون عن نصر الله؛ لأنَّ الله ينصر من ينصره، وإنَّ سبيل نصر الله هو اتباع كتابه، وسُنَّة نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسبيل المؤمنين؛ هذا الشرط الَّذي غفلت عنه تلك الفرق القديمة، والأحزاب المعاصرة حديثاً، ومن ضمنهم حزب التحرير الَّذي تغلغلت أفكاره في العقيدة، لذلك نكرر ما بدأنا به: إن أي جماعة لا تُقِمْ عقيدتها ولا منهجها على فهم السَّلف الصَّالح؛ لن تقيم الإسلام - سواء حزب التحرير، أو الإخوان المسلمون، ولا أي جماعة أخرى - لأنَّهم لم يقيموا دعوتهم على هذه الأصول الثلاثة: كتاب الله، وسُنَّة رسوله الصَّحيحة، ومنهج السَّلف الصَّالح، فبالتالي أنَّى لهم ذلك، وفي هذا القدر كفاية، وهي تذكرة، عسى أن تنفع المؤمنين. (7)
(1) تفرد به مسلم من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -.
(2) رواه مالك في موطئه، والحاكم في مستدركه، وصححه صاحب البحث في «صحيح الجامع: 2937».
(3) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وهو كما قال.
(4) ناقش الكاتب هذه الشبه ودحضها بالأدلة القاطعة في رسالة «الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام»، ورسالة «وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة»؛ فارجع إليهما.
(5) رواه بنحوه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح.
(6) رواه أحمد، ومسلم، والحاكم.
(7)جزاكم الله خير الجزاء، وأحسن مثوبتكم، ونفع بعلمكم المسلمين، آمين
المصدر
حزب التحرير «المعتزلة الجدد»
للإمام محمَّد ناصر الدِّين الألباني
أمامي سؤالان يلتقيان في نقطة واحدة؛ هي عن حزب التحرير.
والسؤال الأول يقول:
قرأت كثيراً عن حزب التحرير، وأعجبت بكثير من أفكارهم، نريد منك أن تشرح لنا أو تفيدنا بنبذة عن هذا الحزب؟
والسؤال الثاني
يدندن حول الموضوع، ولكنَّ السائل يطلب مني شرحاً موسعاً عن حزب التحرير، وأهدافه، وأفكاره، وهل تغلغلت في العقيدة؟ وللجواب عن هذين السؤالين، أقول: إنَّ أي حزب أو تكتل من التكتلات الإسلاميَّة، لم تقم جماعتها ولم تقم أحزابها على كتاب الله وعلى سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فضلاً عن إقامتها على منهج السَّلف الصَّالح؛ فهو في ضلال مبين، ولا شك أن أي حزب لا يقوم على هذه المصادر الثلاثة فستكون عاقبة أموره خسراً، مهما كان مخلصاً في دعوته، وبحثي هذا إنَّما هو عن هذه الجماعات الإسلاميَّة، الَّتي يفترض أن تكون مخلصة لله عزَّ وجلَّ، وناصحة للأُمَّة، كما جاء في الحديث الصحيح: «الدِّين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله!؟ قال: «لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»
(1) ، ذلك لأنَّ الأمر كما قال ربنا عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ [العنكبوت: 19]. فمن كان جهاده لله، وعلى كتاب الله، وعلى سُنَّة رسول الله، وعلى منهج السَّلف الصَّالح؛ فهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ [محمَّد: 7]، فمنهج السَّلف الصَّالح - هذا الأصل العظيم - لا بدَّ لكل جماعة مسلمة أن تقوم دعوتها عليه، وبناءً على معرفتي بكل الجماعات والأحزاب القائمة اليوم على الأرض الإسلاميَّة أقول: إنَّهم جميعاً إلَّا جماعةً واحدةً، ولا أقول إلَّا حزباً واحداً؛ لأنَّ هذه الجماعة لا تتحزب، ولا تتكتل، ولا تتعصب إلَّا للأصول المذكورة آنفاً؛ ألا وهي كتاب الله وسنَّة رسول الله، ومنهج السَّلف الصَّالح، فأنا أعرف جيداً أن كل الجماعات سوى هذه الجماعة لا يدعون إلى الأصل الثالث، وهو أساس متين، وإنَّما يدعون إلى الكتاب والسُّنَّة فقط! ولا يدعون معهما إلى منهج السَّلف الصَّالح، وسيتبين لنا هذا في النصوص الشرعيَّة المنقولة عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كتاباً وسنَّة. وفي واقع الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة، بل والفرق الإسلاميَّة، من يوم أن بدأ الخلاف يمد رقبته، أو يظهر قرنه بين الجماعات الإسلاميَّة الأولى، أي من يوم خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن يوم دعا الجعد بن درهم بدعوة المعتزلة، إلى غير ذلك من الفرق المعروفة أسماؤها قديماً، والَّتي تجددت حديثاً بأسماء حديثة، هذه كلها سواء ما كان منها قديماً أو حديثاً، لا يوجد فيها فرقة تقول وتعلن أنَّها على منهج السَّلف الصَّالح، كل هذه الفرق على ما بينها من اختلاف - سواء كان هذا الاختلاف في العقائد، والأصول، أو كان هذا الاختلاف في الأحكام والفروع - كلهم يقولون: نحن على الكتاب والسُّنَّة، ولكنَّهم يفترقون عنا فلا يقولون قولتنا الَّتي هي تمام دعوتنا (وعلى منهج السَّلف الصَّالح)، وعلى هذا؛ فمن الَّذي يحكم بين هذه الفرق، والَّتي تنتمي على الأقل كلاماً ودعوة إلى الكتاب والسُّنَّة، وما هو الحكم الفصل بين هؤلاء، وكلهم يقولون كلمة واحدة؟
الجواب:
لا سبيل للحكم على جماعة منهم بأنها على الحق إلَّا إذا كانت تتبنى منهج السَّلف الصَّالح. هنا - كما يقال في عصرنا الحاضر - سؤال يطرح نفسه بنفسه، وهو: من أين جئنا بهذه الضميمة: (وعلى منهج السَّلف الصَّالح)؟
والجواب:
أننا جئنا بها من كتاب الله، وحديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وممَّا جرى عليه أئمة السَّلف - من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من أهل السُّنَّة والجماعة كما يقولون اليوم -، وأول ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115]، فقوله عز وجل: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين﴾ عطف على قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول﴾ فلو أن الآية كانت: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى … نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾، لكانت دالة على دعوة أولئك الفرق القديمة والحديثة، لأنَّهم يقولون: نحن على الكتاب والسُّنَّة، وإن كانوا لا يلتزمون بالكتاب والسُّنَّة عملياً، فهم لا يردون المسائل الَّتي يتنازعون فيها إلى الكتاب والسُّنَّة، كما يقول تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59] فإذا دعوت أي واحد من جماهير علمائهم ودعاتهم إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله، قال: إنَّما أتبع مذهبي! هذا يقول: مذهبي حنفي، وهذا شافعي، إلى آخره، فهؤلاء أقاموا تقليدهم للأئمة مقام اتباعهم لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فهل يا ترى قد طبقوا هذه الآية؟ كلا، ثمَّ كلا. فعلى هذا، ما هي الفائدة من ادعائهم أنَّهم على الكتاب والسُّنَّة، ما داموا لم يطبقوهما عملياً؟! هذا مثال لا أقصد به المقلدة، وإنَّما أقصد به الدُّعاة الإسلاميين الذين يفترض فيهم ألا يكونوا من المقلدين؛ الذين يؤثرون أقوال الأئمة غير المعصومين على أقوال الله ورسوله المعصوم، فلم يذكر الله عزَّ وجلَّ تلك الجملة في منتصف تلك الآية عبثاً، وإنَّما ليؤصِّلَ بها أصلاً، ويقعِّدَ بها قاعدة، وهي: أنَّه لا يجوز لنا أن نتَّكِل في فهم كتاب ربنا وسُنَّة نبينا، على عقولنا المتأخرة زمناً، والمتخلفة فهماً، وإنَّما يكون المسلمون متبعين للكتاب والسُّنَّة تأصيلاً وتقعيداً، إذا أضافوا إلى الكتاب والسُّنَّة: ما كان عليه السَّلف الصَّالح؛ لأنَّ هذه الآية تضمنت النص على أنَّه يجب علينا ألا نخالف الرسول، ولا نشاققه، كما أنَّها تضمنت النص على ألا نخالف سبيل المؤمنين، ومعنى ذلك: أنَّه يجب علينا اتباع الرسول عليه السَّلام، وترك مشاققته، كما يجب علينا اتباع سبيل المؤمنين وعدم مخالفته.
فمن هنا - أوَّلاً - نقول: بأنَّه على كل حزب، أو جماعة إسلامية، أن تصحح أصل منطلقها؛ وهو أن تعتمد على الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه سلف الأُمَّة الصَّالح، وهذا القيد لا يتبناه - مع الأسف - حزب التحرير، ولا الإخوان المسلمون، ولا أمثالهم من الأحزاب الإسلاميَّة، أما الأحزاب الَّتي أعلنت محاربة الإسلام - كالبعثيَّة والشيوعيَّة -، فليس لنا معهم كلام الآن، وإذا كان الأمر كذلك؛ فينبغي على كل مسلم ومسلمة أن يعلم أن الخط إذا اعوجَّ من رأسه ابتعد عن الخط المستقيم، وكلما أراد أن يمشي قدماً ازداد انحرافاً، فالخط المستقيم هو الَّذي قال عنه رب العالمين في القرآن الكريم: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153] هذه الآية الكريمة صريحة الدَّلالة، وقطعية الدَّلالة - كما يحب ويلهج حزب التحرير من بين الأحزاب الأخرى في دعوته، وفي رسائله ومحاضراته -، قطعية الدَّلالة؛ لأنَّها تقول: إن السبيل الموصل إلى الله هو واحد، وأن السبل الأخرى هي الَّتي تبعد المسلمين عن سبيل الله ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153] وقد زاد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هذه الآية بياناً وتوضيحاً، كما هو شأن سنته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دائماً وأبداً، كما ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم، حينما خاطب نبيه بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ الآية [النحل: 44]، سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هي البيان الكامل للقرآن، والقرآن هو الأصل، وهو الدستور للإسلام.
ولنقرب الأمر للأذهان أقول: القرآن بالنسبة للنظم الأرضية = كالدستور فيها، والسُّنَّة بالنسبة لهذه القوانين الأرضية = كالقانون الموضح للدستور، لذلك كان من المتفق عليه من المسلمين قاطبة، أنَّه لا يمكن فهم بيان القرآن إلَّا ببيان الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا أمر مجمع عليه، لكن الشيء الَّذي اختلف المسلمون عليه، واختلفت آثارهم من بعد ذلك، هو: أنَّ كل الفرق الضَّالة القديمة لم ترفع رأسها إلى هذا القيد الثالث؛ وهو اتباع السَّلف الصَّالح، فخالفوا تلك الآية الَّتي ذكرتها تكراراً ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فخالفوا سبيل الله؛ لأنَّ سبيل الله واحد؛ وهو ما جاء ذكره في الآية السابقة: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه﴾، قلت: إنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد زاد هذه الآية بياناً وإيضاحاً، حينما روى أحد أصحابه عليه السَّلام، المشهورين بالفقه = ألا وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قال: «خط لنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوماً خطاً بيده مستقيماً في الأرض، ثمَّ خط حوله خطوطاً قصيرة، ثمَّ أشار إلى الخط المستقيم وقرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه﴾ قال عليه السَّلام وهو يمر بأصبعه على الخط المستقيم: «هَذَا صِرَاط الله»، ثمَّ أشار إلى الخطوط القصيرة من حوله فقال: «هذه طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو النَّاس إليه»، هذا الحديث يفسره حديث آخر، وهو ما رواه أهل السنن - كأبي داود، والترمذي، وأمثالهما من أئمة الحديث - من طرق عديدة، عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم -، كأبي هريرة، ومعاوية، وأنس بن مالك، وغيرهم - بسند جيد، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلَّا واحدة» قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي ما أنا عليه وأصحابي». هذا الحديث يوضح لنا سبيل المؤمنين المذكور في هذه الآية، من هم المؤمنون المذكورون فيها؟ هم الذين ذكرهم الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حديث الفرق، حينما سئل عن الفرقة النَّاجية، وعن منهجها، وعن صفتها، عن منطلقها، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «ما أنا عليه وأصحابي»، فيجب الانتباه لهذا، لأنَّ جواب الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام إن لم يكن وحياً من الله فهو تفسير من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لسبيل المؤمنين المذكور في قول الله عزَّ وجلَّ، وهو المقصود بالآية: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث إنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكر الرسول في الآية وذكر سبيل المؤمنين، والرسول عليه الصَّلاة والسَّلام جعل علامة الفرقة النَّاجية - الَّتي ليست من الفرق الاثنتين والسبعين الهالكة - أنَّها الَّتي تكون على ما كان عليه الرسول وأصحابه، فنجد في هذا الحديث ما وجدناه في الآية، كما أنَّ الآية لم تقتصر على ذكر الرسول، كذلك الحديث لم يقتصر على ذكر الرسول فقط، وإنَّما ذكرت الآية سبيل المؤمنين، كذلك ذكر الحديث أصحاب النبي الكريم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فالتقى الحديث مع القرآن، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»
(2) .
كثير من الفرق القديمة والحديثة لا تنتبه لهذا القيد المذكور في هذه الآية، وفي هذا الحديث = حديث الفرق الضَّالة، حيث جعل من علامة الفرقة النَّاجية أنَّها تكون على ما كان عليه الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه، وقريب من هذا الحديث حديث العرباض بن سارية - وهو من أصحاب النَّبي ومن أهل الصُّفة، الذين كانوا فقراء يلزمون المسجد، ويلزمون حلقات الرسول عليه السَّلام، من أجل تلقي العلم من كتاب الله، ومن فم رسول الله غضًّا طريًّا - قال العرباض هذا: «وعظنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنَّها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله؛ قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن ولِّي عليكم عبد حبشي، وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (3) ، الشاهد من هذا الحديث أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يقتصر في حض المسلمين حين يختلفون على سنته، بل أجاب بأسلوبه الحكيم، ومن أحكم منه بعد أحكم الحاكمين؟ لذلك حينما قال: «وإنَّه من يَعِيشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً» أجاب عن سؤال مفروض، هو: ما نفعل يا رسول الله؟ فقال: «عليكم بسنتي»، لم يكتف عليه السَّلام بأمر الذين يعيشون في وقت الاختلاف بقوله: «عليكم بسنتي»، وإنَّما عطف على ذلك فقال: «وسنة الخلفاء الراشدين» إذاً ليضم المسلم الناصح لنفسه في عقيدته بأنَّه لا بدَّ من الرجوع إلى سبيل المؤمنين، بالإضافة إلى الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، بدلالة الآية، وحديث الفرق، وحديث العرباض بن سارية.
هذه حقيقة مع الأسف الشديد يغفل عنها كل الأحزاب الإسلاميَّة المعاصرة، كشأن من سبقها من الفرق الضَّالة، وبخاصة منها حزب التحرير، الَّذي يتميز عن أي حزب إسلامي آخر أنَّه يقيم للعقل البشري وزناً أكثر ممَّا أقامه الإسلام له، نحن نعلم يقيناً أن الله عزَّ وجلَّ حينما يكلم النَّاس بكلامه، إنَّما يخاطب العقلاء، ويخاطب العلماء، ويخاطب الذين يتفكرون، ولكننا نعلم أن العقل البشري مختلف؛ فالعقل عقلان: عقل مسلم، وعقل كافر، هذا العقل الكافر ليس عقلاً، قد يكون فيه ذكاء، ولكنَّه لا يكون عقلاً، لأنَّ العقل في أصل اللغة العربية هو الَّذي يعقل صاحبه، ويربطه، ويقيده من أن ينفلت يميناً وشمالاً، ولا يمكن للعاقل أن لا ينفلت يميناً وشمالاً إلَّا إذا اتبع كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتقيد بفهم السلف، ولذلك حكى الله عزَّ وجلَّ عن الكفار والمشركين اعترافهم يوم القيامة بأنَّهم لا يعقلون، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10] يعترفون بأنَّهم حينما كانوا في الحياة الدنيا لم يكونوا عقلاء، مع أن منهم أذكياء يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله ذلك في كتابه العزيز حيث قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾ [الروم: 7] إذاً هناك عقلان: عقل حقيقي، وعقل مجازي، فالعقل الحقيقي هو عقل المسلم الَّذي آمن بالله ورسوله، والعقل المجازي هو عقل الكفار الذين قالوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ الْسَّعِير﴾ وقال ربنا بصفة عامة عن الكفار: ﴿لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]؛ فالكفار لهم قلوب، ولكنَّهم لا يفقهون بها، أي: لا يفهمون الحق بها.
فإذا عرفنا الحقيقة، وما أظن أنَّه يختلف فيها اثنان، وينتطح فيها عنزان؛ لأنَّها صريحة في القرآن، وفي أحاديث الرسول عليه السَّلام، لكني أريد أن أتوصل من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى؛ هي نقطة البحث في هذه الشواهد والأدلة: إذا كان عقل الكفار ليس عقلاً، فعقل المسلم أيضاً ينقسم إلى قسمين: عقل عالم، وعقل جاهل، فعقل المسلم الجاهل لا يمكن أن يكون مساوياً في فهمه لعقل المسلم العالم أبداً، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] وقال أيضاً: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] إذاً لا يجوز للمسلم المؤمن بالله ورسوله حقاً أن يحكِّمَ عقله، وإنَّما يخضع عقله لما قال الله وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، من هنا نضع نقطة في دعوة حزب التحرير أنَّهم تأثروا بالمعتزلة في منطلقهم في طريق الإيمان، وطريق الإيمان هو عنوان بحث لهم في كتاب نظام الإسلام، الَّذي ألفه رئيسهم تقي الدِّين النبهاني رحمه الله تعالى، وقد التقيت به أكثر من مرة، وأنا عارف به تماماً، وعارف بما عليه حزب التحرير أحسن ما تكون عليه المعرفة، ولذلك أنا أتكلم إن شاء الله عن علم لما تقوم عليه دعوتهم، فهذه أول نقطة تؤخذ عليهم؛ أنَّهم جعلوا للعقل مزية أكثر ممَّا ينبغي، - وسأكرر هنا -: أنني لا أنفي مكانة العقل في الإسلام، ولكنَّ أقرر أنَّه ليس للعقل أن يحكم على الكتاب والسُّنَّة، وإنَّما عليه أن يخضع لحكم الكتاب والسُّنَّة، وأخبارهما، وما عليه إلَّا أن يفهم ما جاء في الكتاب والسُّنَّة؛ من هنا انحرف المعتزلة قديماً، فأنكروا حقائق شرعيَّة كبيرة وكثيرة جداً، بسبب أنَّهم سلطوا عقولهم على نصوص الكتاب والسُّنَّة، فحرَّفوها، وبدَّلوا فيها، وغيَّروا، وبتعبير علماء السَّلف: عطَّلوا نصوص الكتاب والسُّنَّة، هذه نقطة أريد أن ألفت نظر القارئ إليها؛ وهي: أنَّه ينبغي إخضاع العقل المسلم لنصوص الكتاب والسُّنَّة وفهمهما، فالحاكم هو الله ورسوله، وليس الحاكم هو عقل البشر، لما ذكرنا بأنَّ عقل البشر يختلف من عقل مسلم وعقل كافر، ثمَّ إنَّه يختلف أيضاً ما بين عقل مسلم عالم، وعقل مسلم جاهل، لذلك قال تعالى - ولا بأس من تكرار الدليل؛ لأنَّ هذا الموضوع قليلاً ما يطرق أسماع الكثير من الملايين المُمَلْيَنة من المسلمين، من الرِّجال فضلاً عن المخدَّرات من النساء، ولذلك فأنا مضطر إلى تكرير هذه النقاط، وهذه الأدلة، ومنها قوله تعالى -: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون﴾ وهنا نقف قليلاً؛ من هم العالمون؟ أهم العلماء الكفار؟ كلا؛ فنحن لا نقيم لهم وزناً؛ لأنَّهم ليسوا عقلاء، إنَّما حقيقة أمرهم أنَّهم أذكياء؛ لأنَّهم اخترعوا، وابتدعوا، وارتقوا في الحضارة المادية المعروفة لدى الجميع، كذلك العقل عند المسلمين؛ فهذا العقل ليسوا فيه سواء، فلا يستوي عقل العالم مع عقل الجاهل، وسأقول شيئاً آخر هو: أنَّه لا يستوي عقل العالم العامل بعلمه، مع عقل العالم غير العامل بعلمه، لا يستوون مثلاً، لذلك انحرفت المعتزلة في كثير من الأصول الَّتي وضعوها، مخالفين فيها طريق الشرع كتاباً وسُنةً، ومنهج السَّلف الصَّالح، وهذه هي النقطة الأولى؛ وهي اعتماد حزب التحرير على العقل أكثر ممَّا ينبغي.
النقطة الثانية، وهي تتفرع في ظنِّي من النقطة الأولى:
لقد قسَّموا نصوص الكتاب والسُّنَّة إلى قسمين؛ من حيث روايتها، ومن حيث دلالتها.
أمَّا من حيث روايتها، فقالوا: الرواية قد تكون قطعية الثبوت، وقد تكون ظنية الثبوت.
أمَّا الدَّلالة؛ فهي كذلك: قد تكون قطعية الدَّلالة، وقد تكون ظنية الدَّلالة.
لا نناقش في هذا الاصطلاح، فإنَّ الأمر كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح، لكننا نناقش فيما إذا ما رتبوا على هذا الاصطلاح مفارقات تخالف ما كان عليه المسلمون الأولون، ومن هنا يظهر للجميع أهمية سبيل المؤمنين، لأنَّها قيد يمنع من أن ينفلت العالم المسلم - فضلاً عن الجاهل المسلم - من نص الكتاب والسُّنَّة، برجوعه لمثل هذا الاصطلاح الَّذي لا يجوز أن يكون له الثمرة التالية، وهي: أنَّهم قد رتبوا على ذلك الاصطلاح ما يلي:
فقالوا: إذا جاء النص في القرآن الكريم - وهو بلا شك في الاصطلاح السابق ذكره قطعي الثبوت -، وإذا جاء النص قطعي الثبوت ظنِّي الدَّلالة، فلا يجب على المسلم أن يأخذ بما فيه من المعنى؛ لأنَّه ظنِّي الدَّلالة، فلا يجوز له أن يبني عقيدته على نص قطعي الثبوت، ولكنَّه ظنِّي الدَّلالة وكذلك العكس عندهم تماماً، إذا جاء الدليل قطعي الدَّلالة، لكن ليس قطعي الثبوت - كما هو شأن الغالبيَّة العظمى من الأحاديث - فإنَّهم لا يأخذون منه عقيدة، ومن هنا جاؤوا بعقيدة لا يعرفها السَّلف الصَّالح، ووضعوا اصطلاحاً لهم، وكتبهم الَّتي سطروا فيها هذا معروفة، وأعني بكتبهم القديمة؛ لأنَّهم قد أجروا فيها تعديلاً، وأنا من أعرف النَّاس بهذا التعديل، لكنَّه في الواقع تعديل شكلي، وهو لو سلمنا به؛ فإنَّما يدلّ أنَّ القوم كانوا حتَّى في عقيدتهم مضطربين، حيث قالوا: إن العقيدة لا تثبت إلَّا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدَّلالة، وهي أن الحديث الصحيح رواية، والقطعي دلالة، لا يؤخذ منه عقيدة!
فقلنا لهم فيما ناقشناهم وجادلناهم: هذه العقيدة من أين جئتم بها؟ وما الدليل على أنَّه لا يجوز للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح لم يصل إلى درجة التواتر، ولا على نص متواتر ولكنَّه ليس قطعي الدَّلالة من أين جئتم بهذا؟
فاضطربوا بالجواب، والبحث هنا طويل وطويل جداً، واستدلوا بمثل قوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: 23]، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ [يونس: 36] وهذا البحث يخرجنا عما نحن بصدده من بيان ما نعرفه عن حزب التحرير؛ لأنَّ مناقشة هذه القاعدة وبيان ما عليها من اعتراضات، وأنَّها أقيمت على دليل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء (4) ، ولذلك نكتفي بما بيناه حول قاعدتهم الضَّالة، والَّتي تقول: ليس للمسلم أن يبني عقيدته على حديث صحيح، ليس قطعي الثبوت، لكنَّه قطعي الدَّلالة!! فمن أين لهم هذا؟ لا دليل عليه من الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه السَّلف، بل ما كان عليه السلف ينقض هذا، وهذه الفكرة تبناها بعض الخلف - وهم المعتزلة قديماً، وأتباعهم المعاصرون في العقيدة على الأقل، وهم: (حزب التحرير) - أقول: كلنا يعلم أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حينما أرسله الله عزَّ وجلَّ بشيراً ونذيراً، وقال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] كان تبليغه عليه الصَّلاة والسَّلام رسالته إلى النَّاس تارة بشخصه؛ حينما كان يحضر ندواتهم، ومجتمعاتهم، فيخاطبهم مباشرة، وتارة يرسل رسولاً من طرفه، يدعو المشركين إلى اتباع دعوة النبي الكريم، وتارة يرسل خطاباً - كما هو معلوم من السيرة - إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك فارس، وإلى المقوقس، وإلى أمراء العرب، كما هو مشروح في كتب السيرة، ومن ذلك أنَّه أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأرسل إلى الروم دحية الكلبي، وهؤلاء أفراد لا يمثل خبرهم الخبر القطعي؛ لأنَّهم أفراد، فمعاذ في مكان، وأبو موسى في مكان، وعليٌّ في مكان، وقد يختلف أيضاً الزمان، وهناك حديث في «الصَّحيحين»، أخرجاه بسند صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما أرسل معاذاً إلى اليمن، قال له: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله» الحديث، فمن يشك من المسلمين أن هذه الشهادة هي الأصل الأول من الإسلام؟ أي: هي العقيدة الأولى الَّتي يبنى عليها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله؟ فقد ذهب معاذ - رضي الله عنه - وحده مبلغاً، وداعياً المشركين أن يؤمنوا بدين الإسلام، ترى هل قامت الحجة بمعاذ بن جبل حينما دعا المشركين إلى الإسلام، وأمرهم أن يقيموا خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنَّها ركعتان وأربع وثلاث، إلى آخر ما هناك من تفصيلات معلومة لدينا، والحمد لله، ويأمرهم بالزكاة، وإلى آخر تفاصيل الزكاة؛ فيما يتعلق بالذهب والفضة، وفيما يتعلق بالثمار، والبقر، والجمال، وإلى آخره... والسؤال الآن: هل قامت حجة الإسلام على أولئك المشركين بإرسال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معاذاً وحده؟
على مذهب حزب التحرير - مع الأسف - لم تقم الحجَّة! لأنَّه فرد يجوز عليه الكذب، كما يقولون! فإذا قلنا بأنَّ الكذب بعيد عنه، فلا أقل أن يقال: يجوز عليه الخطأ والنسيان!! لقد جاؤوا بفلسفة: أن الحديث الصحيح لا يجوز أن نأخذ منه عقيدة إسلامية! إذاً اليمانيون حينما دعاهم معاذ إلى العقيدة، لم يقم عليهم الحجَّة؛ لأنَّه فرد، وهؤلاء اليمانيون كان منهم وثنيون، ونصارى، ومجوس، وعلى قاعدة حزب التحرير؛ لم تقم عليهم حجة الله في العقائد! أمَّا في الأحكام؛ يقول حزب التحرير كما يقول عامة المسلمين: نعم حديث الآحاد تثبت فيه الأحكام الشرعيَّة، أمَّا العقائد الإسلاميَّة فلا تثبت بحديث الآحاد! هذا معاذ يمثل عقيدة الآحاد في الإسلام كله؛ أصولاً وفروعاً عقائد وأحكاماً، فمن أين جاؤوا بهذا التفصيل؟! ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم: 23] وهنا أود أن أنهي البحث المتعلق بحديث الآحاد، الَّذي ضرب به حزب التحرير عشرات الأحاديث الصَّحيحة بقاعدته الواهنة، الَّتي ليس لها من قرار؛ وهي أن أحاديث الآحاد لا تقوم بها عقيدة! أود أن أنهي البحث بهذه النكتة التالية:
ذكر أحدهم: أنَّ أحد الدُّعاة من حزب التحرير ذهب إلى اليابان، فألقى عليهم بعض المحاضرات، ومنها: طريق الإيمان، وفيها أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، وكان هناك في الحضور شاب عاقل، كيِّس فَطِنٌ، قال للمحاضر: يا أستاذ! أنت جئت داعية إلى بلاد اليابان، بلاد الشرك والكفر، كما تقول؛ جئت تدعوهم إلى الإسلام، وتقول لهم: إنَّ الإسلام يقول: إنَّ العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد، وأنت تقول لنا: إنَّ من العقيدة ألا تأخذوا العقيدة من الفرد الواحد! أنت الآن تدعونا إلى الإسلام، وأنت وحدك، فينبغي عليك - بناءً على فلسفتك هذه - أن تعود أدراجك إلى بلدك، وأن تأتي بأمثالك من عشرات المسلمين الذين يقولون بقولك، فيصبح خبرك حينئذ خبراً متواتراً! فأسقط في يد المحاضر.
وهذا مثال من الأمثلة الكثيرة الَّتي تدل على سوء عاقبة من يخالف منهج السَّلف الصَّالح، لقد جاء في «صحيح البخاري»، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إذا جلس أحدكم في التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» (5) ، هذا الحديث من أحاديث الآحاد، لكنَّه من الأحاديث العجيبة الغريبة بالنسبة لفلسفة حزب التحرير، إنَّه من جهة يتضمن حكماً شرعياً، والحكم الشرعي عنده يثبت بحديث الآحاد، ومن جهة أخرى يتضمن عقيدة أن هناك في القبر عذاباً، وأن هناك فتنة الدجال، فهم لا يؤمنون بعذاب القبر، ولا يؤمنون بفتنة الدجال الأكبر؛ الَّذي حدث عنه الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «ما بين خلق آدم والساعة فتنة أضر على أمتي من الدجال» (6) ، هم لا يؤمنون بهذا الدَّجال؛ لأنَّه بزعمهم ليس حديثاً متواتراً! فنحن نقول لهم الآن: ماذا تفعلون بحديث أبي هريرة؛ فإنَّه من جهة يتضمن حكماً شرعياً، فعليكم أن تقولوا في آخر الصَّلاة: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، لكن هل تستعيذون من عذاب القبر، وأنتم لا تؤمنون بعذاب القبر؟! نقيضان لا يجتمعان!! فجاؤونا بمخلص (حيلة) من الحيل الَّتي نهى الله المسلمين عنها، قالوا: نحن نصدق بعذاب القبر، ولا نؤمن به! فلسفة غريبة عجيبة!! ما الَّذي يحملهم على ذلك؟ لقد جاؤوا بالفلسفة الأولى وتسلسلت معهم إلى فلسفات كثيرة خرجوا بها عن الصراط السوي، الَّذي كان عليه أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والحديث كما هو مبين طويل الذيل.
إنَّ من دعوات حزب التحرير الَّتي يدندنون حولها: أنَّهم يريدون أن يقيموا حكم الله في الأرض، وأحب أن ألفت النظر بأنَّ حزب التحرير ليس منفرداً في هذه الغاية، فكل الجماعات والأحزاب الإسلاميَّة تنتهي كلها إلى هذه الغاية - أي: يريدون أن يقيموا حكم الله في الأرض -، لكن السؤال: هل هذه الأحزاب الإسلاميَّة - ومن بينها حزب التحرير - على صراط الله المستقيم، مثل ما كان عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه؟ الجواب كما أشرنا دائماً:
كلٌ يدَّعي وصلاً بليلى
وليلى، لا تقرُّ لهم بذاك!
ليس في هذه الجماعات مَنْ يُقَيِّدُ فهمه للإسلام بهذا القيد؛ وهو فهم السَّلف الصَّالح، ولذلك هم بعيدون عن نصر الله؛ لأنَّ الله ينصر من ينصره، وإنَّ سبيل نصر الله هو اتباع كتابه، وسُنَّة نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسبيل المؤمنين؛ هذا الشرط الَّذي غفلت عنه تلك الفرق القديمة، والأحزاب المعاصرة حديثاً، ومن ضمنهم حزب التحرير الَّذي تغلغلت أفكاره في العقيدة، لذلك نكرر ما بدأنا به: إن أي جماعة لا تُقِمْ عقيدتها ولا منهجها على فهم السَّلف الصَّالح؛ لن تقيم الإسلام - سواء حزب التحرير، أو الإخوان المسلمون، ولا أي جماعة أخرى - لأنَّهم لم يقيموا دعوتهم على هذه الأصول الثلاثة: كتاب الله، وسُنَّة رسوله الصَّحيحة، ومنهج السَّلف الصَّالح، فبالتالي أنَّى لهم ذلك، وفي هذا القدر كفاية، وهي تذكرة، عسى أن تنفع المؤمنين. (7)
(1) تفرد به مسلم من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -.
(2) رواه مالك في موطئه، والحاكم في مستدركه، وصححه صاحب البحث في «صحيح الجامع: 2937».
(3) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وهو كما قال.
(4) ناقش الكاتب هذه الشبه ودحضها بالأدلة القاطعة في رسالة «الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام»، ورسالة «وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة»؛ فارجع إليهما.
(5) رواه بنحوه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح.
(6) رواه أحمد، ومسلم، والحاكم.
(7)جزاكم الله خير الجزاء، وأحسن مثوبتكم، ونفع بعلمكم المسلمين، آمين
المصدر