Hukum Minta Tolong Jin (2)
Hukum Minta Tolong Jin bagian (2). Pembahasan halal haram dan dalilnya terkait minta tolong bantuan jin atas perkara yang mubah apakah boleh atau tidak. Berikut argumen pendapat yang membolehkan.
Hukum Minta Tolong Jin bagian (2). Pembahasan halal haram dan dalilnya terkait minta tolong bantuan jin atas perkara yang mubah apakah boleh atau tidak. Berikut argumen pendapat yang membolehkan.
Baca juga: Minta Tolong Jin Bagian 1
جواز الاستعانة بالجن في المباحات
الفصل الأول
القائلين بجواز الاستعانة بالجن في المباحات وأدلتهم، وتحته مباحث
المبحث الرابع
كيف يعرف صلاح الجني
قد يقول الجني للإنسي: إنه من المسلمين، ونحو ذلك ، ويكون كاذباً ، ولا يمكن معرفة صدقه من كذبه ؟ فيقال :
أولاً : هذا يعرف كما يعرف من يستعان بهم من الإنس ، فقد يغلب على ظنه صلاحه أو يقطع به ، أو يستعين به فيما لا يضر عدم صلاحه ، والمطلوب أنه لا يمكنه أن يلبس على الإنسي هذا بشيء ، ولا يستدرجه إلى باطل ، وإعانته له ليس فيها محرم ، وهذا كما أن المنافق أو الشيطان من شياطين الإنس قد يعين الصالحين من الإنس ، ولا يعلمون حقيقة أمره، ولا يمكنه أن يوقعهم في محظور ، بل هو خائف منهم ، ومن هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر )[1] ، والرجل كما يكون من الإنس ، يكون من الجن ، كما قال تعالى : ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6]، ولكن كما أنه يحذر الإنسان ممن يستعين بهم من الإنس فكذا يجب أن يكون الحذر إذا كانوا من الجن أعظم فقد يكون شيطاناً ، ويعرف أن الجن ليسوا كالإنس في هذا فقد يشعر الجني الإنسي أنه صالح ولا يشك في صلاحه ثم يتبين أنه شيطان ، وقد يكون الجني صالحاً ، لكن يدخل بينهما شيطان ويظنه الإنسي هو الصالح وليس كذلك ولا يعلم بذلك حتى الجن الصالح ، لذلك يشبَّه سؤال الجن بالإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ما لم يكن ثم قرينة تدل على الصدق .
ثانياً: للمجيزين أن يقولوا: من يستعين بالله وكان قوي الإيمان والتوحيد، فإنه لا سبيل للشيطان عليه وأمر الشيطان أهون من هذا ، كما أن الله يحمي عبده المؤمن من شر من يخدمه من الإنس ، وقد قال تعالى : ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾[2]، وقال تعالى : ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾[3] .
المبحث الخامس
بيان أنه مع هذه الضوابط فهذه الاستعانة مكروهة
أطلق كثير ممن قرأ كلام شيخ الإسلام أنه يرى جواز ذلك ، مع أنه يرى أن تركه أفضل وأولى وأنه مكروه – وقد سبقت الإشارة إلى ذلك- : ففي كلامه السابق نقلُه بعد أن ذكر هذه الاستعانة قال : (وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله ، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول : كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)[4]، يعني أنَّ حال نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من حال سليمان عليه السلام ؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم اقتصر على تعليمهم الدين ولم يستعملهم في أمور راجعة إليه ، كما أنه لم يستعمل الإنس في ذلك .
ووجه الشبه باستعمال سليمان عليه السلام ليس من كل وجه ، حتى يقال إن استعمال سليمان لهم كان مكروهاً له ، لكن هم استعملوا الجن استعمالاً مكروها ً ، - وجن وشياطين سليمان كانوا مسخرين له وفي مقام ذل – وهم خدم له فليست استعانة مكروهة بل مباحة ، قال الشيخ ابن تيمية : (والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان لكن أعطى ملكاً لا ينبغي لأحد بعده، وسُخِّرت له الإنس والجن ، وهذا لم يحصل لغيره ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تفلَّت عليه العفريت، ليقطع عليه صلاته ، قال: (فأخذته فذُعته حتى سال لعابه على يدي ، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته[5] )[6] ، فلم يستخدم الجن أصلاً ، لكن دعاهم إلى الإيمان بالله ، وقرأ عليهم القرآن ، وبلغهم الرسالة ، وبايعهم كما فعل بالإنس ، والذي أوتيهُ صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان ، فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده ، وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله ، وطلب مرضاته ، واختار أن يكون عبداً رسولاً ، على أن يكون نبياً ملِكاً ، فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد ، فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين)[7] .
وقال أيضاً: (وتسخير الجن لسليمان لم يكن مثله لغيره ، لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين ، ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق ، كما يعاون الإنس بعضهم بعضاً ، فأما طاعة مثل طاعة سليمان فهذا لم يكن لغير سليمان . ومحمد صلى الله عليه وسلم أُعطي أفضل مما أعطي سليمان ؛ فانه أرسل إلى الجن وأُمروا أن يؤمنوا به ويطيعوه ، فهو يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته ، لا يأمرهم بخدمته وقضاء حوائجه ، كما كان سليمان يأمرهم ، ولا يقهرهم باليد كما كان سليمان يقهرهم ، بل يفعل فيهم كما يفعل في الإنس ، فيجاهدهم الجن المؤمنون ، ويقيمون الحدود على منافقيهم ، فيتصرَّف فيهم تصرف العبد الرسول لا تصرف النبي الملك ، كما كان سليمان يتصرف فيهم .
والصالحون من أمته المتبِعون له، يتَّبعونه فيما كان يأمر به الإنس والجن ، وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات ، كما قد يستخدمون بعض الإنس ، وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم ، لا سيَّما إن كان بسبب غير مباح ، وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة ، من الظلم والفواحش ، فيقتلون نفوساً بغير حق ، ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة، كما يحضرون لهم امرأة أو صبياً ، أو يجذبونه إليه ، وآخرون يستخدمونهم في الكفر ، فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين ، فإن كرامات الصالحين : هو ما كان سببه الإيمان والتقوى ، لا ما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان . وأيضاً فالصالحون سابقوهم لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله [8] ، ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح ، وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام، وإن كانوا إنما خدموه لطاعتهِ لله ، كما لو خدم الإنس رجلاً صالحاً لطاعته لله ثم استخدمهم فيما لا يجوز ، فهذا بمنزلة من أُنعم عليه بطاعته نعمةً فصرفها إلى معصية الله ، فهو آثم بذلك ، وكثير من هؤلاء يُسلب تلك النعمة ، ثم قد يُسلب الطاعة فيصير فاسقاً ، ومنهم من يرتدَّ عن دين الإسلام فطاعة الجن للإنسان ليست أعظم من طاعة الإنس ، بل الإنس أجل وأعظم وأفضل وطاعتهم أنفع)[9].
فقد بيَّن هنا -رحمه الله- أن الصالحين الذين يستعملون الجن في المباحات دون الذين لا يستعملونهم في ذلك ، وأن عدم استعمالهم في هذا من صفات السابقين ، وأن من يستعملهم قد يكون ذلك مما ينقص دينهم ، وذلك من جهة مسألة الخلق المسألة المذمومة ؛ لأنه ذكر بعد هذا قال : (لا سيَّما إن كان بسبب غير مباح) فغير هذا وهو ما كان بسبب مباح هو أيضاً قد يكون مما ينقص دينه لأنه قال : لاسيما .
ومما يبين هذا وأن الأولى : الاقتصار على تعليمهم الدين وأمرهم بما يجب عليهم ، ونهيهم عما حرم عليهم من غير استعمال لهم : أن التعامل مع الإنس بهذه الطريقة هو الأفضل أيضاً ، ولا يكون لأحد عليه منَّة ، أو يتعجل بذلك بعضَ أجره ، بل إن الذي يستعمل الإنس أكمل ممن يستعمل الجن؛ لأن الإنس أكمل منهم وأجل وأفضل وطاعتهم أنفع ، لقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [10] . ولذلك فإن الرسل والأنبياء من الإنس لا من الجن [11]، وهذا يتضح أيضاً من الأصل الذي خلق منه الفريقان [12] ، فإن الطين أجل وأشرف من النار من وجوه كثيرة .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستعمل في مصلحته الخاصة لا الإنس ولا الجن ، بل لما عرَض عليه الصديق رضي الله عنه - وهو من يستبعد أن يمن على رسول الله - إحدى راحلتيه عند الهجرة قال له صلى الله عليه وسلم : (بالثَّمن) . وفي رواية : (بثمنها)[13]. وقد قال تعالى مثنياً على الصِّديق : ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ﴾ [14]. فلم يكن لأحد على الصديق أيضاً منة ؛ لأنه لم يكن يسألهم ، فكانت صدقته عليهم خالصة لوجه الله ، لا ليردَّ بذلك جميلاً لهم ، ويُفهم منه ما ذكرنا ، قال الشوكاني : ( ومعنى الآية: أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها )[15].
فإن استعمال الإنس في أمور الشخص الخاصة يجعل في النفس كسرة لهم ، ومنَّة لغير الله ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب ويكافئ عليها ، ففي الحديث الصحيح : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها )[16] يعني يكافئ عليها ، فيعطيه عوضاً عنها ما هو خير منها أو مثلها ، وكان هذا فعل السابقين من أمته لتحقيقهم التوحيد [17] .
وقد كان خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسقطُ سوطُ أحدهم فلا يطلب من أحد أن يناوله ، وهم الذين عندما بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس أسرَّ إلى هؤلاء كلمة خفية : ( ولا تسألوا الناس شيئا )[18] ، فإذا كانت هذه مبايعة خواص الناس وفعلُهم مع الإنس ، وعُلم أن الذي يستعمل الإنس أكمل من الذي يستعمل الجن :لم يكن من يستعمل الجن من السابقين ، وكان هذا مكروهاً من باب أولى ، ولهذا بوَّب على هذا الحديث بعض العلماء : باب : كراهة مسألة الإنس .
ولذلك قال شيخ الإسلام : (من تُعينه الجن على قضاء حوائجه المباحة فهذا متوسط وخوارقه لا ترفعه ولا تخفضه ، وهذا يشبه تسخير الجن لسليمان ، والأول مثل إرسال نبينا إلى الجن يدعوهم إلى الإيمان ، فهذا أكمل من استخدام الجن في بعض الأمور المباحة ، كاستخدام سليمان لهم في محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ، قال تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾[19] وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [20] ونبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته ، كما أرسل إلى الإنس ، فإذا اتبعوه صاروا سعداء فهذا أكمل له ولهم من ذاك ، كما أن العبد الرسول أكمل من النبي الملك)[21].
وأيضا فإن استخدام العالِم للتلميذ من الجن[22] أو الإنس في أموره الخاصة به لا يليق بكمل العلماء وربما ساء ظن الطالب به ، وهذا معروف في الإنس ، وهذا أحد الأسباب المتوقعة في نفور ذلك الطالب الجني من المدابغي الشافعي السابق ذكره ، وغير
المبحث السادس
الفرق بين الاستعانة بهم وإعانتهم من غير طلب من الإنس
مما سبق يتبين أنه يجب أن يُفرَّق - ولو في كلام شيخ الإسلام - بين طريقة من يسأل الجن أن يعينوه على أمور له مباحة بالضوابط السابقة فيكون هذا مكروهاً على مذهب شيخ الإسلام ، وبين أن يعرض الجني على الإنسي أن يعينه على نفس هذه الأمور من غير أن يسأله الإنسي ، ومن غير أن يستشرف لمعونته ، فيجوز بلا كراهة عند الشيخ وغيره من أهل العلم كما سبق ، بل بعض من يمنع الاستعانة بهم ، لم يمنع من الموافقة على معاونتهم إذا ما عرضوا ذلك بأنفسهم ، ومن يجيز الاستعانة يجيز هذا من باب أولى ، وإعانة الجن المؤمن للإنس من غير استعانة الإنس بهم واقعة لا يمكن إنكارها.
ومن الفروق بين الخدمة والاستعانة : أنه في الخدمة قد يخدمونه وهو يعلم ، وقد لا يعلم ، بخلاف الاستعانة فلا بد من علمه.
كما أن هناك فرقاً بين الاستعانة بهم وبين مجرد سؤالهم ، فسؤال الجن لا حرج فيه قد أفردته ببحث ، لكن لا يصدق كلامهم ولا يكذب بل يتعامل مع أخبارهم كالتعامل مع الإسرائيليات ، ما لم يكن ثم قرينة تدل على صدقه.
المبحث السابع
الفرق بين هذه الاستعانة ، وقول سليمان – عليه السلام-:
﴿ وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35]:
يتبين هذا بالفرق الذي ذكره العلماء بين إرادة ربط النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان ، وهذه الدعوة من سليمان – عليه السلام- :
وذلك : أنه جاء في الحديث : خنقُ النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان ، وقوله كما في الصحيحين : "فأمكنني الله منه " ، وإرادة ربطه ، وفي رواية عند البخاري : فذكرت دعوة أخي سليمان.."فرددُّته خاسئاً "[23] ، ومفهوم دعوة نبي الله سليمان -عليه السلام- ﴿ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35] أنه لا يمكن هذا لأحد من بعده ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ذكرت دعوة أخي سليمان) فيه ما يدل على أن هذه الصورة – وهي ربط الشيطان- داخلة فيما دعا به سليمان.
والإشكال في الزيادة على الخنق ، وهو إرادة الربط - وورود هذا الإشكال إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد ربطه والجني على صورته التي خُلق عليها - ويراه أهل المدينة متشكلاً ، وإلا فمجرد الربط وهو متشكل بأي صورة ، فهذا يحصل لمن هو دون الأنبياء ولا إشكال فيه ، كما أراد أبو هريرة رضي الله عنه ربطه وغيره ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم " أسيرك " والأسر من الربط ، وغيرها من الحوادث التي أذكرها في بحث " حكم سؤال الجن " بحول الله .
وهذا إنما يجري أيضاً على تفسير جمهور العلماء للآية ، وأن معناها : أنه لا ينبغي لأحد من البشر في حياة نبي الله سليمان عليه السلام وبعدها ، لدلالة الآية .
وعلى هذا فلحلِّ هذا الإشكال طرق : فيحتمل أن يكون خاصاً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول البيهقي رحمه الله : (إن النبي صلى الله عليه وسلم لو تمنى تسخيرهم لما امتنعوا عليه ، ولكن اختار العبودية مع النبوة )[24] ، ويرى ابن حزم أنه خاص للأنبياء جميعهم دون غيرهم فقال : (وإذا أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم ، فمن ادعى أنه يراهم ، أو رآهم فهو كاذب ، إلا أن يكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فذلك معجزة لهم [25] ، كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تفلت عليه شيطان ليقطع عليه صلاته ، قال : (فأخذته، فذكرت دعوة أخي سليمان ، ولولا ذلك لأصبح موثقاً يلعب به أهل المدينة) ، أو كما قال عليه السلام)[26] ، يعني لا ينبغي لأحد من بعدي غير الأنبياء على كلام ابن حزم –رحمه الله- .
وفي الآية تفاسير أخرى منها : ما ذكره الزمخشري والشوكاني والألوسي[27] وغيرهم : أنه أراد مُلكاً عظيماً فقال : ﴿ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35] ، ولم يقصد بذلك إلا عِظم الملك وسعته ، كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده ، ولكن في هذا التوجيه نوع تكلف والأصل عدم التقدير . ومنها ما ذكره كثير من العلماء أن معنى ﴿ مِنْ بَعْدِي ﴾ أي : من دوني . ومنها : ما جاء عن عطاء وقتادة رحمهما الله ، أن الدعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته فقط ، فلا يقوم غيره فيه مقامه ، كما سُلبه مرّة وأقيم مقامه غيره كما في القصص التي ذكرها المفسرون عند تفسير الآية التي قبلها . ولكن رد الجمهور هذا بأن ظاهر الحديث يرده -كما سبق -، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند شرحه للحديث:
( وأما ما أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة، قال في قوله ﴿ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾: لا أسلبه كما سلبته أول مرة . وظاهر حديث الباب[ حديث تفلت الجني السابق] يرد عليه. وكأن سبب تأويل قتادة هذا هكذا طعن بعض الملاحدة على سليمان ، ونسبته في هذا إلى الحرص على الاستبداد بنعمة الدنيا ، وخفي عليه أن ذلك كان بإذن له من الله ، وأن تلك كانت معجزته ،كما اختص كل نبي بمعجزة دون غيره والله أعلم)[28].
وقال ابن كثير عند تفسيره للآية : (والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية ، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[ ثم ذكر أحاديث تفلت الجني]). ونسب هذا البغوي للجمهور وأنه الظاهر من الحديث .
ومع هذا قال ابن عطية : ﴿ يَنْبَغِي ﴾: إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع)[29].
والصحيح من هذه الأقوال- والله أعلم-: هو ما تدل عليه الآية مع الحديث ، أنه لا يكون لأحد من بعده عليه السلام ، لكن بذلك القدر الذي كان له ، أما مجرد القدر اليسير كربط الجني ونحوه ، فهذا غير معارض لذلك ، وإنما ترك نبينا صلى الله عليه وسلم ربطه ؛ لأن هذا من باب التصرف الملكي ، وهو قد اختار أن يكون عبداً رسولاً ، وهو أفضل من النبي الملِك ، وقد أشار إلى هذا البيهقي فيما سبق ، وهو معنى قول من قال من العلماء : تركه تواضعاً : قال شيخ الإسلام : (وأما الزيادة [عن الخنق] وهو ربطه إلى السارية، فهو من باب التصرف الملكي الذي تركه لسليمان)[30] وبه تجتمع الأقوال ، وبه قال جمع من العلماء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : (والذي أعطاه الله تعالى سليمان خارج عن قدرة الجن والإنس ، فإنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن مطلقا لطاعته )[31]. وقال : ( وتسخير الجن لسليمان ، لم يكن مثله لغيره [إلى أن قال] : فأما طاعة مثل طاعة سليمان فهذا لم يكن لغير سليمان)[32] . وقال الحافظ أيضاً عند شرحه للحديث : (وفي هذه إشارة إلى أنه تركه رعاية لسليمان عليه السلام، ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده لا في هذا القدر فقط) [33].
وقال ابن عاشور في تفسيره : ( ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان، فإن ملك سليمان : عمّ التصرف في الجن ، وتسخير الريح ، والطير ، ومجموعُ ذلك لم يحصل لأحد من بعده[وذكر حديث تفلت الجني])[34] .
وقال الألوسي في " روح المعاني" : ( لا ينافي ذلك ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام ، بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم ؛ وإلا فالمُلك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية ؛ بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى: ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ﴾ [ص: 36] . وقيل: إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها).
وقال النووي : ( قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم ذكرت قَول أَخي سليمان) قال القاضي: معناه: أنه مختص بهذا فامتنع نبينا - صلى الله عليه وسلم- من ربطه ، إما أنه لم يقدر عليه لذلك ، وإما لكونه لما تذكر ذلك لم يتعاط ذلك ، لظنه أنه لم يقدر عليه أو تواضعاً وتأدباً)[35] ، ولكن قوله لعدم قدرته أو ظنه ذلك يرده ظاهر الحديث والله أعلم . وقال المناوي : ( ولم أحب أن أشارك سليمان عليه السلام في ذلك لتكون دعوتي مدخرة لأمتي)[36] .
وبه يتبين أنه لا تعارض بين الآية وبين ما ذهب إلية المجيزون من أهل العلم على ما أجازوه من أنواع الاستعانة بالجن ، والله أعلم.
[1] - رواه البخاري : كتاب الجهاد . باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (2897) ومسلم في كتاب الإيمان ح (111).
[2] [النحل: 99، 100] .
[3] [النساء: 76].
[4] - مجموع الفتاوى ( 11/307) وكون هذا جاز جنسه لسليمان عليه السلام ، لا ينفي كراهته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه شرع من قبلنا وتغير حكمه في شرعنا ، أو يقال هم يخدمون سليمان من غير مسألة منه لهم مذمومة ، أو أنهم أسرى .
[5]- قد يقال هذا يتعارض مع دعوة سليمان عليه السلام ، وهذا بحث يأتي ذكره مفصلا قريبا –بإذن الله-.
[6] - رواه البخاري في التفسير ، باب : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي (4808) وفي الأنبياء وغير ذلك (1152، 3110 ،4530،3423) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، رقم: 541.
[7] - الفتاوى (13/89)
[8] - وهذا يدل على جواز استعمالهم في طاعة الله عند الشيخ .
[9] - النبوات (1/125).
[10] [الإسراء: 70]
[11] - وذكر ابن القيم أنه لا يكون من الجن: الرسل والأنبياء والمقربون أيضاً ، بل حِليتهم الصلاح . انظر : طريق الهجرتين ، في طبقات المكلفين : الطبقة الثامنة عشرة : الجن ص614 . ولكن هذا ضعيف جداً بل فيهم صحابة أجلاء وصدِّيقون والصدِّيق لا يكون إلا صحابيّ .
[12] - ولذلك يقول شيخ الإسلام : ( الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد ، والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر)[12] وهذا في الجملة . وفي حاشية الدسوقي : ( تنبيه : قد علمت أن في مِيتة الآدمي الخلاف ، وأما ميتة الجن فنجسة ؛ لأنه لا يلحق الآدمي في الشرف ، وإن اقتضى عموم ( المؤمن لا ينجس) أن له ما للآدمي ، ولو قيل بطهارة ميتة المسلم منهم لكان له وجه ) (1/53) ، وما قاله أخيراً هو المتجه لعموم الحديث ، وأن المؤمن لا ينجس ، والكلام هنا إذا مات الجني بعد تشكُّله ، أما قبل ذلك فلا يتوجه فيه الكلام ؛ لأنه لا يُرى ، وقد ذكر بعض الفقهاء في كتبهم أن الجن إذا تشكل أخذ خصوصية ما تشكل فيه من النجاسة وغيرها ، فإن تشكل في حية أصبح له مالها من السمية ونحوها ، وهكذا في غير الحية ولكن الدسوقي يمنع من تشبيههم بالإنس وهو المراد هنا ، والله أعلم ، تنبيه : قد جعل الله الحيطان لهم كالهواء للطير ، ومع هذا لا يفتحون ما ذكر اسم الله عليه .
[13] - رواه البخاري (7/292) (3692) مع الفتح .
[14] [الليل: 19، 20].
[15] - فتح القدير عند تفسير هذه الآية من سورة الليل.
[16] - رواه البخاري (2445). عن عائشة رضي الله عنها .
[17] - ينظر في ذلك كتاب " العبودية" لشيخ الإسلام نفسه .
[18] -رواه مسلم (2/721) (1043) باب كراهة مسألة الناس .
[19] [سبأ: 13]
[20] [سبأ: 12]
[21] - النبوات (1/125).
[22] - طلب الجن للعلم على يد العلماء متواتر في كتب التاريخ ، ومن ذلك في سير أعلام النبلاء (10/629) : ( قال محمد بن يعقوب البيكندي : سمعت علي بن الحسين يقول : كان محمد بن سلام في منزله فدق بابه فخرج فقال الشخص : يا أبا عبد الله أنا جنيٌ رسولُ ملك الجن إليك يسلم عليك ويقول : لا يكون لك مجلس إلا يكون منا في مجلسك أكثر من الإنس . قال محمد بن يعقوب : هذه حكاية مستفيضة عندنا مشهورة) ، وكذا كثير من مجالس العلم اليوم يحضرها كثير من الجن وفيهم الصالحون وطلبة العلم ، وقد تبين لجمع من المشايخ أن درسه الخاص يلازمه مع الطلبة من الإنس جمع من طلبة العلم من الجن ملازمة تامة ، وأعرف من درس عندنا في معهد الحرم المكي وتخرج وهو من الجن لا يعرف ذلك أحد وهو في صورة إنسية ولا يعرف ذلك حتى زملاءه من الطلاب.
[23] - (3423)(6/527) .
[24] - دلائل النبوة (2/762) " دار النفائس .
[25] - هذا على فرض أن الشيطان الذي خنقه نبينا كان في صورته الحقيقية .
[26] - الفصل (3/179-180).
[27] - عند تفسيرهم للآية:35 من سورة ص . وينظر غيرها من التفاسير .
[28] - الفتح (8/408).
[29] - المحرر الوجيز (4/505) .
[30] - البيان المبين ص82.
[31] - النبوات (1/279)
[32] - السابق (1/125)
[33] - الفتح (6/530) .
[34] - في " التحرير والتنوير"عند تفسير الآية (23/263) .
[35] - عند شرحه للحديث السابق (5/29) .
[36] - في "فيض القدير"(2032 ) عند شرح الحديث.
رابط الموضوع:
Baca juga: Minta Tolong Jin Bagian 1
جواز الاستعانة بالجن في المباحات
الفصل الأول
القائلين بجواز الاستعانة بالجن في المباحات وأدلتهم، وتحته مباحث
المبحث الرابع
كيف يعرف صلاح الجني
قد يقول الجني للإنسي: إنه من المسلمين، ونحو ذلك ، ويكون كاذباً ، ولا يمكن معرفة صدقه من كذبه ؟ فيقال :
أولاً : هذا يعرف كما يعرف من يستعان بهم من الإنس ، فقد يغلب على ظنه صلاحه أو يقطع به ، أو يستعين به فيما لا يضر عدم صلاحه ، والمطلوب أنه لا يمكنه أن يلبس على الإنسي هذا بشيء ، ولا يستدرجه إلى باطل ، وإعانته له ليس فيها محرم ، وهذا كما أن المنافق أو الشيطان من شياطين الإنس قد يعين الصالحين من الإنس ، ولا يعلمون حقيقة أمره، ولا يمكنه أن يوقعهم في محظور ، بل هو خائف منهم ، ومن هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر )[1] ، والرجل كما يكون من الإنس ، يكون من الجن ، كما قال تعالى : ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6]، ولكن كما أنه يحذر الإنسان ممن يستعين بهم من الإنس فكذا يجب أن يكون الحذر إذا كانوا من الجن أعظم فقد يكون شيطاناً ، ويعرف أن الجن ليسوا كالإنس في هذا فقد يشعر الجني الإنسي أنه صالح ولا يشك في صلاحه ثم يتبين أنه شيطان ، وقد يكون الجني صالحاً ، لكن يدخل بينهما شيطان ويظنه الإنسي هو الصالح وليس كذلك ولا يعلم بذلك حتى الجن الصالح ، لذلك يشبَّه سؤال الجن بالإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ما لم يكن ثم قرينة تدل على الصدق .
ثانياً: للمجيزين أن يقولوا: من يستعين بالله وكان قوي الإيمان والتوحيد، فإنه لا سبيل للشيطان عليه وأمر الشيطان أهون من هذا ، كما أن الله يحمي عبده المؤمن من شر من يخدمه من الإنس ، وقد قال تعالى : ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾[2]، وقال تعالى : ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾[3] .
المبحث الخامس
بيان أنه مع هذه الضوابط فهذه الاستعانة مكروهة
أطلق كثير ممن قرأ كلام شيخ الإسلام أنه يرى جواز ذلك ، مع أنه يرى أن تركه أفضل وأولى وأنه مكروه – وقد سبقت الإشارة إلى ذلك- : ففي كلامه السابق نقلُه بعد أن ذكر هذه الاستعانة قال : (وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله ، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول : كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)[4]، يعني أنَّ حال نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من حال سليمان عليه السلام ؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم اقتصر على تعليمهم الدين ولم يستعملهم في أمور راجعة إليه ، كما أنه لم يستعمل الإنس في ذلك .
ووجه الشبه باستعمال سليمان عليه السلام ليس من كل وجه ، حتى يقال إن استعمال سليمان لهم كان مكروهاً له ، لكن هم استعملوا الجن استعمالاً مكروها ً ، - وجن وشياطين سليمان كانوا مسخرين له وفي مقام ذل – وهم خدم له فليست استعانة مكروهة بل مباحة ، قال الشيخ ابن تيمية : (والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان لكن أعطى ملكاً لا ينبغي لأحد بعده، وسُخِّرت له الإنس والجن ، وهذا لم يحصل لغيره ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تفلَّت عليه العفريت، ليقطع عليه صلاته ، قال: (فأخذته فذُعته حتى سال لعابه على يدي ، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته[5] )[6] ، فلم يستخدم الجن أصلاً ، لكن دعاهم إلى الإيمان بالله ، وقرأ عليهم القرآن ، وبلغهم الرسالة ، وبايعهم كما فعل بالإنس ، والذي أوتيهُ صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان ، فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده ، وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله ، وطلب مرضاته ، واختار أن يكون عبداً رسولاً ، على أن يكون نبياً ملِكاً ، فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد ، فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين)[7] .
وقال أيضاً: (وتسخير الجن لسليمان لم يكن مثله لغيره ، لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين ، ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق ، كما يعاون الإنس بعضهم بعضاً ، فأما طاعة مثل طاعة سليمان فهذا لم يكن لغير سليمان . ومحمد صلى الله عليه وسلم أُعطي أفضل مما أعطي سليمان ؛ فانه أرسل إلى الجن وأُمروا أن يؤمنوا به ويطيعوه ، فهو يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته ، لا يأمرهم بخدمته وقضاء حوائجه ، كما كان سليمان يأمرهم ، ولا يقهرهم باليد كما كان سليمان يقهرهم ، بل يفعل فيهم كما يفعل في الإنس ، فيجاهدهم الجن المؤمنون ، ويقيمون الحدود على منافقيهم ، فيتصرَّف فيهم تصرف العبد الرسول لا تصرف النبي الملك ، كما كان سليمان يتصرف فيهم .
والصالحون من أمته المتبِعون له، يتَّبعونه فيما كان يأمر به الإنس والجن ، وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات ، كما قد يستخدمون بعض الإنس ، وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم ، لا سيَّما إن كان بسبب غير مباح ، وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة ، من الظلم والفواحش ، فيقتلون نفوساً بغير حق ، ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة، كما يحضرون لهم امرأة أو صبياً ، أو يجذبونه إليه ، وآخرون يستخدمونهم في الكفر ، فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين ، فإن كرامات الصالحين : هو ما كان سببه الإيمان والتقوى ، لا ما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان . وأيضاً فالصالحون سابقوهم لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله [8] ، ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح ، وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام، وإن كانوا إنما خدموه لطاعتهِ لله ، كما لو خدم الإنس رجلاً صالحاً لطاعته لله ثم استخدمهم فيما لا يجوز ، فهذا بمنزلة من أُنعم عليه بطاعته نعمةً فصرفها إلى معصية الله ، فهو آثم بذلك ، وكثير من هؤلاء يُسلب تلك النعمة ، ثم قد يُسلب الطاعة فيصير فاسقاً ، ومنهم من يرتدَّ عن دين الإسلام فطاعة الجن للإنسان ليست أعظم من طاعة الإنس ، بل الإنس أجل وأعظم وأفضل وطاعتهم أنفع)[9].
فقد بيَّن هنا -رحمه الله- أن الصالحين الذين يستعملون الجن في المباحات دون الذين لا يستعملونهم في ذلك ، وأن عدم استعمالهم في هذا من صفات السابقين ، وأن من يستعملهم قد يكون ذلك مما ينقص دينهم ، وذلك من جهة مسألة الخلق المسألة المذمومة ؛ لأنه ذكر بعد هذا قال : (لا سيَّما إن كان بسبب غير مباح) فغير هذا وهو ما كان بسبب مباح هو أيضاً قد يكون مما ينقص دينه لأنه قال : لاسيما .
ومما يبين هذا وأن الأولى : الاقتصار على تعليمهم الدين وأمرهم بما يجب عليهم ، ونهيهم عما حرم عليهم من غير استعمال لهم : أن التعامل مع الإنس بهذه الطريقة هو الأفضل أيضاً ، ولا يكون لأحد عليه منَّة ، أو يتعجل بذلك بعضَ أجره ، بل إن الذي يستعمل الإنس أكمل ممن يستعمل الجن؛ لأن الإنس أكمل منهم وأجل وأفضل وطاعتهم أنفع ، لقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [10] . ولذلك فإن الرسل والأنبياء من الإنس لا من الجن [11]، وهذا يتضح أيضاً من الأصل الذي خلق منه الفريقان [12] ، فإن الطين أجل وأشرف من النار من وجوه كثيرة .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستعمل في مصلحته الخاصة لا الإنس ولا الجن ، بل لما عرَض عليه الصديق رضي الله عنه - وهو من يستبعد أن يمن على رسول الله - إحدى راحلتيه عند الهجرة قال له صلى الله عليه وسلم : (بالثَّمن) . وفي رواية : (بثمنها)[13]. وقد قال تعالى مثنياً على الصِّديق : ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ﴾ [14]. فلم يكن لأحد على الصديق أيضاً منة ؛ لأنه لم يكن يسألهم ، فكانت صدقته عليهم خالصة لوجه الله ، لا ليردَّ بذلك جميلاً لهم ، ويُفهم منه ما ذكرنا ، قال الشوكاني : ( ومعنى الآية: أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها )[15].
فإن استعمال الإنس في أمور الشخص الخاصة يجعل في النفس كسرة لهم ، ومنَّة لغير الله ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب ويكافئ عليها ، ففي الحديث الصحيح : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها )[16] يعني يكافئ عليها ، فيعطيه عوضاً عنها ما هو خير منها أو مثلها ، وكان هذا فعل السابقين من أمته لتحقيقهم التوحيد [17] .
وقد كان خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسقطُ سوطُ أحدهم فلا يطلب من أحد أن يناوله ، وهم الذين عندما بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس أسرَّ إلى هؤلاء كلمة خفية : ( ولا تسألوا الناس شيئا )[18] ، فإذا كانت هذه مبايعة خواص الناس وفعلُهم مع الإنس ، وعُلم أن الذي يستعمل الإنس أكمل من الذي يستعمل الجن :لم يكن من يستعمل الجن من السابقين ، وكان هذا مكروهاً من باب أولى ، ولهذا بوَّب على هذا الحديث بعض العلماء : باب : كراهة مسألة الإنس .
ولذلك قال شيخ الإسلام : (من تُعينه الجن على قضاء حوائجه المباحة فهذا متوسط وخوارقه لا ترفعه ولا تخفضه ، وهذا يشبه تسخير الجن لسليمان ، والأول مثل إرسال نبينا إلى الجن يدعوهم إلى الإيمان ، فهذا أكمل من استخدام الجن في بعض الأمور المباحة ، كاستخدام سليمان لهم في محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ، قال تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾[19] وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [20] ونبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته ، كما أرسل إلى الإنس ، فإذا اتبعوه صاروا سعداء فهذا أكمل له ولهم من ذاك ، كما أن العبد الرسول أكمل من النبي الملك)[21].
وأيضا فإن استخدام العالِم للتلميذ من الجن[22] أو الإنس في أموره الخاصة به لا يليق بكمل العلماء وربما ساء ظن الطالب به ، وهذا معروف في الإنس ، وهذا أحد الأسباب المتوقعة في نفور ذلك الطالب الجني من المدابغي الشافعي السابق ذكره ، وغير
المبحث السادس
الفرق بين الاستعانة بهم وإعانتهم من غير طلب من الإنس
مما سبق يتبين أنه يجب أن يُفرَّق - ولو في كلام شيخ الإسلام - بين طريقة من يسأل الجن أن يعينوه على أمور له مباحة بالضوابط السابقة فيكون هذا مكروهاً على مذهب شيخ الإسلام ، وبين أن يعرض الجني على الإنسي أن يعينه على نفس هذه الأمور من غير أن يسأله الإنسي ، ومن غير أن يستشرف لمعونته ، فيجوز بلا كراهة عند الشيخ وغيره من أهل العلم كما سبق ، بل بعض من يمنع الاستعانة بهم ، لم يمنع من الموافقة على معاونتهم إذا ما عرضوا ذلك بأنفسهم ، ومن يجيز الاستعانة يجيز هذا من باب أولى ، وإعانة الجن المؤمن للإنس من غير استعانة الإنس بهم واقعة لا يمكن إنكارها.
ومن الفروق بين الخدمة والاستعانة : أنه في الخدمة قد يخدمونه وهو يعلم ، وقد لا يعلم ، بخلاف الاستعانة فلا بد من علمه.
كما أن هناك فرقاً بين الاستعانة بهم وبين مجرد سؤالهم ، فسؤال الجن لا حرج فيه قد أفردته ببحث ، لكن لا يصدق كلامهم ولا يكذب بل يتعامل مع أخبارهم كالتعامل مع الإسرائيليات ، ما لم يكن ثم قرينة تدل على صدقه.
المبحث السابع
الفرق بين هذه الاستعانة ، وقول سليمان – عليه السلام-:
﴿ وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35]:
يتبين هذا بالفرق الذي ذكره العلماء بين إرادة ربط النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان ، وهذه الدعوة من سليمان – عليه السلام- :
وذلك : أنه جاء في الحديث : خنقُ النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان ، وقوله كما في الصحيحين : "فأمكنني الله منه " ، وإرادة ربطه ، وفي رواية عند البخاري : فذكرت دعوة أخي سليمان.."فرددُّته خاسئاً "[23] ، ومفهوم دعوة نبي الله سليمان -عليه السلام- ﴿ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35] أنه لا يمكن هذا لأحد من بعده ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ذكرت دعوة أخي سليمان) فيه ما يدل على أن هذه الصورة – وهي ربط الشيطان- داخلة فيما دعا به سليمان.
والإشكال في الزيادة على الخنق ، وهو إرادة الربط - وورود هذا الإشكال إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد ربطه والجني على صورته التي خُلق عليها - ويراه أهل المدينة متشكلاً ، وإلا فمجرد الربط وهو متشكل بأي صورة ، فهذا يحصل لمن هو دون الأنبياء ولا إشكال فيه ، كما أراد أبو هريرة رضي الله عنه ربطه وغيره ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم " أسيرك " والأسر من الربط ، وغيرها من الحوادث التي أذكرها في بحث " حكم سؤال الجن " بحول الله .
وهذا إنما يجري أيضاً على تفسير جمهور العلماء للآية ، وأن معناها : أنه لا ينبغي لأحد من البشر في حياة نبي الله سليمان عليه السلام وبعدها ، لدلالة الآية .
وعلى هذا فلحلِّ هذا الإشكال طرق : فيحتمل أن يكون خاصاً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول البيهقي رحمه الله : (إن النبي صلى الله عليه وسلم لو تمنى تسخيرهم لما امتنعوا عليه ، ولكن اختار العبودية مع النبوة )[24] ، ويرى ابن حزم أنه خاص للأنبياء جميعهم دون غيرهم فقال : (وإذا أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم ، فمن ادعى أنه يراهم ، أو رآهم فهو كاذب ، إلا أن يكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فذلك معجزة لهم [25] ، كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تفلت عليه شيطان ليقطع عليه صلاته ، قال : (فأخذته، فذكرت دعوة أخي سليمان ، ولولا ذلك لأصبح موثقاً يلعب به أهل المدينة) ، أو كما قال عليه السلام)[26] ، يعني لا ينبغي لأحد من بعدي غير الأنبياء على كلام ابن حزم –رحمه الله- .
وفي الآية تفاسير أخرى منها : ما ذكره الزمخشري والشوكاني والألوسي[27] وغيرهم : أنه أراد مُلكاً عظيماً فقال : ﴿ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35] ، ولم يقصد بذلك إلا عِظم الملك وسعته ، كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده ، ولكن في هذا التوجيه نوع تكلف والأصل عدم التقدير . ومنها ما ذكره كثير من العلماء أن معنى ﴿ مِنْ بَعْدِي ﴾ أي : من دوني . ومنها : ما جاء عن عطاء وقتادة رحمهما الله ، أن الدعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته فقط ، فلا يقوم غيره فيه مقامه ، كما سُلبه مرّة وأقيم مقامه غيره كما في القصص التي ذكرها المفسرون عند تفسير الآية التي قبلها . ولكن رد الجمهور هذا بأن ظاهر الحديث يرده -كما سبق -، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند شرحه للحديث:
( وأما ما أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة، قال في قوله ﴿ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾: لا أسلبه كما سلبته أول مرة . وظاهر حديث الباب[ حديث تفلت الجني السابق] يرد عليه. وكأن سبب تأويل قتادة هذا هكذا طعن بعض الملاحدة على سليمان ، ونسبته في هذا إلى الحرص على الاستبداد بنعمة الدنيا ، وخفي عليه أن ذلك كان بإذن له من الله ، وأن تلك كانت معجزته ،كما اختص كل نبي بمعجزة دون غيره والله أعلم)[28].
وقال ابن كثير عند تفسيره للآية : (والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية ، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[ ثم ذكر أحاديث تفلت الجني]). ونسب هذا البغوي للجمهور وأنه الظاهر من الحديث .
ومع هذا قال ابن عطية : ﴿ يَنْبَغِي ﴾: إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع)[29].
والصحيح من هذه الأقوال- والله أعلم-: هو ما تدل عليه الآية مع الحديث ، أنه لا يكون لأحد من بعده عليه السلام ، لكن بذلك القدر الذي كان له ، أما مجرد القدر اليسير كربط الجني ونحوه ، فهذا غير معارض لذلك ، وإنما ترك نبينا صلى الله عليه وسلم ربطه ؛ لأن هذا من باب التصرف الملكي ، وهو قد اختار أن يكون عبداً رسولاً ، وهو أفضل من النبي الملِك ، وقد أشار إلى هذا البيهقي فيما سبق ، وهو معنى قول من قال من العلماء : تركه تواضعاً : قال شيخ الإسلام : (وأما الزيادة [عن الخنق] وهو ربطه إلى السارية، فهو من باب التصرف الملكي الذي تركه لسليمان)[30] وبه تجتمع الأقوال ، وبه قال جمع من العلماء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : (والذي أعطاه الله تعالى سليمان خارج عن قدرة الجن والإنس ، فإنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن مطلقا لطاعته )[31]. وقال : ( وتسخير الجن لسليمان ، لم يكن مثله لغيره [إلى أن قال] : فأما طاعة مثل طاعة سليمان فهذا لم يكن لغير سليمان)[32] . وقال الحافظ أيضاً عند شرحه للحديث : (وفي هذه إشارة إلى أنه تركه رعاية لسليمان عليه السلام، ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده لا في هذا القدر فقط) [33].
وقال ابن عاشور في تفسيره : ( ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان، فإن ملك سليمان : عمّ التصرف في الجن ، وتسخير الريح ، والطير ، ومجموعُ ذلك لم يحصل لأحد من بعده[وذكر حديث تفلت الجني])[34] .
وقال الألوسي في " روح المعاني" : ( لا ينافي ذلك ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام ، بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم ؛ وإلا فالمُلك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية ؛ بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى: ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ﴾ [ص: 36] . وقيل: إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها).
وقال النووي : ( قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم ذكرت قَول أَخي سليمان) قال القاضي: معناه: أنه مختص بهذا فامتنع نبينا - صلى الله عليه وسلم- من ربطه ، إما أنه لم يقدر عليه لذلك ، وإما لكونه لما تذكر ذلك لم يتعاط ذلك ، لظنه أنه لم يقدر عليه أو تواضعاً وتأدباً)[35] ، ولكن قوله لعدم قدرته أو ظنه ذلك يرده ظاهر الحديث والله أعلم . وقال المناوي : ( ولم أحب أن أشارك سليمان عليه السلام في ذلك لتكون دعوتي مدخرة لأمتي)[36] .
وبه يتبين أنه لا تعارض بين الآية وبين ما ذهب إلية المجيزون من أهل العلم على ما أجازوه من أنواع الاستعانة بالجن ، والله أعلم.
[1] - رواه البخاري : كتاب الجهاد . باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (2897) ومسلم في كتاب الإيمان ح (111).
[2] [النحل: 99، 100] .
[3] [النساء: 76].
[4] - مجموع الفتاوى ( 11/307) وكون هذا جاز جنسه لسليمان عليه السلام ، لا ينفي كراهته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه شرع من قبلنا وتغير حكمه في شرعنا ، أو يقال هم يخدمون سليمان من غير مسألة منه لهم مذمومة ، أو أنهم أسرى .
[5]- قد يقال هذا يتعارض مع دعوة سليمان عليه السلام ، وهذا بحث يأتي ذكره مفصلا قريبا –بإذن الله-.
[6] - رواه البخاري في التفسير ، باب : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي (4808) وفي الأنبياء وغير ذلك (1152، 3110 ،4530،3423) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، رقم: 541.
[7] - الفتاوى (13/89)
[8] - وهذا يدل على جواز استعمالهم في طاعة الله عند الشيخ .
[9] - النبوات (1/125).
[10] [الإسراء: 70]
[11] - وذكر ابن القيم أنه لا يكون من الجن: الرسل والأنبياء والمقربون أيضاً ، بل حِليتهم الصلاح . انظر : طريق الهجرتين ، في طبقات المكلفين : الطبقة الثامنة عشرة : الجن ص614 . ولكن هذا ضعيف جداً بل فيهم صحابة أجلاء وصدِّيقون والصدِّيق لا يكون إلا صحابيّ .
[12] - ولذلك يقول شيخ الإسلام : ( الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد ، والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر)[12] وهذا في الجملة . وفي حاشية الدسوقي : ( تنبيه : قد علمت أن في مِيتة الآدمي الخلاف ، وأما ميتة الجن فنجسة ؛ لأنه لا يلحق الآدمي في الشرف ، وإن اقتضى عموم ( المؤمن لا ينجس) أن له ما للآدمي ، ولو قيل بطهارة ميتة المسلم منهم لكان له وجه ) (1/53) ، وما قاله أخيراً هو المتجه لعموم الحديث ، وأن المؤمن لا ينجس ، والكلام هنا إذا مات الجني بعد تشكُّله ، أما قبل ذلك فلا يتوجه فيه الكلام ؛ لأنه لا يُرى ، وقد ذكر بعض الفقهاء في كتبهم أن الجن إذا تشكل أخذ خصوصية ما تشكل فيه من النجاسة وغيرها ، فإن تشكل في حية أصبح له مالها من السمية ونحوها ، وهكذا في غير الحية ولكن الدسوقي يمنع من تشبيههم بالإنس وهو المراد هنا ، والله أعلم ، تنبيه : قد جعل الله الحيطان لهم كالهواء للطير ، ومع هذا لا يفتحون ما ذكر اسم الله عليه .
[13] - رواه البخاري (7/292) (3692) مع الفتح .
[14] [الليل: 19، 20].
[15] - فتح القدير عند تفسير هذه الآية من سورة الليل.
[16] - رواه البخاري (2445). عن عائشة رضي الله عنها .
[17] - ينظر في ذلك كتاب " العبودية" لشيخ الإسلام نفسه .
[18] -رواه مسلم (2/721) (1043) باب كراهة مسألة الناس .
[19] [سبأ: 13]
[20] [سبأ: 12]
[21] - النبوات (1/125).
[22] - طلب الجن للعلم على يد العلماء متواتر في كتب التاريخ ، ومن ذلك في سير أعلام النبلاء (10/629) : ( قال محمد بن يعقوب البيكندي : سمعت علي بن الحسين يقول : كان محمد بن سلام في منزله فدق بابه فخرج فقال الشخص : يا أبا عبد الله أنا جنيٌ رسولُ ملك الجن إليك يسلم عليك ويقول : لا يكون لك مجلس إلا يكون منا في مجلسك أكثر من الإنس . قال محمد بن يعقوب : هذه حكاية مستفيضة عندنا مشهورة) ، وكذا كثير من مجالس العلم اليوم يحضرها كثير من الجن وفيهم الصالحون وطلبة العلم ، وقد تبين لجمع من المشايخ أن درسه الخاص يلازمه مع الطلبة من الإنس جمع من طلبة العلم من الجن ملازمة تامة ، وأعرف من درس عندنا في معهد الحرم المكي وتخرج وهو من الجن لا يعرف ذلك أحد وهو في صورة إنسية ولا يعرف ذلك حتى زملاءه من الطلاب.
[23] - (3423)(6/527) .
[24] - دلائل النبوة (2/762) " دار النفائس .
[25] - هذا على فرض أن الشيطان الذي خنقه نبينا كان في صورته الحقيقية .
[26] - الفصل (3/179-180).
[27] - عند تفسيرهم للآية:35 من سورة ص . وينظر غيرها من التفاسير .
[28] - الفتح (8/408).
[29] - المحرر الوجيز (4/505) .
[30] - البيان المبين ص82.
[31] - النبوات (1/279)
[32] - السابق (1/125)
[33] - الفتح (6/530) .
[34] - في " التحرير والتنوير"عند تفسير الآية (23/263) .
[35] - عند شرحه للحديث السابق (5/29) .
[36] - في "فيض القدير"(2032 ) عند شرح الحديث.
رابط الموضوع: