Makna Al-Wasilah (Tawasul) QS Al-Maidah 53 Menurut Tafsir Al-Alusi
Makna Al-Wasilah (Tawasul) QS Al-Maidah 53 Menurut Tafsir Al-Alusi
Makna Al-Wasilah (Tawasul) QS Al-Maidah 53 Menurut Tafsir Al-Alusi
Al-Alusi, Tafsir Al-Alusi (Ruhul Maany), hlm. 6/125-126
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته، وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب، أمر المؤمنين بتقواه - عز وجل - في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد وابتغوا إليه أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه الوسيلة هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله - عز وجل - من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها، وقدم عليها للاهتمام، وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: بمحذوف وقع حالا منها، أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة ، فإنه ملاك الأمر كله، والذريعة لكل خير، والمناجاة من كل ضير، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات.
وأخرج ابن الأنباري وغيره، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وكأن المعنى حينئذ: اطلبوا متوجهين إليه حاجتكم؛ فإن بيده - عز شأنه - مقاليد السماوات والأرض، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره، فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة.
وفسر بعضهم الوسيلة بمنزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر؛ لاختصاصها بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بناء على ما رواه مسلم وغيره: « إنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة » وكون الطلب هنا للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى.
واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى [ ص: 125 ] بهم، بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: « إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور » وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه، إن كان المطلوب منه حيا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال لعمر - رضي الله تعالى عنه - لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من دعائك»، وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني - رحمة الله تعالى عليه - أن يستغفر له، وأمر أمته - صلى الله تعالى عليه وسلم - بطلب الوسيلة له كما مر آنفا، وبأن يصلوا عليه.
وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم، السلام على أهل القبور مشروع، ومخاطبتهم جائزة، فقد صح أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء تعالى بكم لاحقون، يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم ».
ولم يرد عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم، وهم أحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يقول إذ دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف، ولا يزيد على ذلك ، ولا يطلب من سيد العالمين - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو من ضجيعيه المكرمين - رضي الله تعالى عنهما – شيئا، وهم أكرم من ضمتهم البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة.
نعم، الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع، فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك، مستقبلين القبلة، ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء، مع أنه أفضل من العرش.
واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه لا يستقبل، بل يستدبر وتستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام، وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار.
فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة، وعلة الإيجاد على الحقيقة - صلى الله تعالى عليه وسلم - فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته - عليه الصلاة والسلام - ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟!
وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح، عن عثمان بن حنيف - رضي الله تعالى عنه - أن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال: «ادع الله تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم - نبي الرحمة، يا رسول الله [ ص: 126 ] إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في » ونقل عن أحمد مثل ذلك.
ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا، وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ، ونقله عن الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف، أي بدعاء أو شفاعة نبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم - ففيه جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث: « اللهم فشفعه في » بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي - كما هو عادته - على المجد ، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف، حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثلة، انتهى.
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت، أو نحو ذلك كما تسمع - إن شاء الله تعالى - ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في سننه وغيره من أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك! أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك » لا يصلح دليلا على ما نحن فيه، حيث أنكر عليه قوله: «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله: «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به - صلى الله تعالى عليه وسلم - الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته - صلى الله تعالى عليه وسلم - حيا وميتا، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا؛ قياسا عليه - عليه الصلاة والسلام - بجامع الكرامة، وإن تفاوت قوة وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به.
وتساوي حالتي حياته ووفاته - صلى الله تعالى عليه وسلم - في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري ، عن أنس ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس - رضي الله تعالى عنه - فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم – فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون ».
فإنه لو كان التوسل به - عليه الصلاة والسلام - بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهم يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا - مع أنهم السابقون الأولون - وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبحقوق الله تعالى ورسوله - عليه الصلاة والسلام – وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة، يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع التفاوت في الكرامة [ ص: 127 ] - الذي لا ينكره إلا منافق - مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه - عز شأنه - حيا أو ميتا مما لم يقم النص عليه، لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به - صلى الله تعالى عليه وسلم – حيا، وكذا بغيره كذلك.
أما الأول فلقول عمر - رضي الله تعالى عنه - فيه: «كنا نتوسل بنبيك، صلى الله تعالى عليه وسلم».
وأما الثاني فلقوله: «إنا نتوسل بعم نبيك» لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا.
وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع، وقد علمت الكلام فيه.
وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: اللهم أسألك بجاه فلان، فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته، فيقال: «أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت يا الله، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم»، و«أسألك بأنك أنت الله، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد»، و«أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك» الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة.
وما يذكره بعض العامة من قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي؛ فإن جاهي عند الله تعالى عظيم » لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث.
وما رواه القشيري ، عن معروف الكرخي - قدس سره - أنه قال لتلامذته: »إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي؛ فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن» لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين.
وأما ما رواه ابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في دعاء الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار، وأن يدخلني الجنة » ففي سنده العوفي ، وفيه ضعف، وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا، كما في قوله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين .
وفي الصحيح من حديث معاذ : « حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم » فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة، وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه، فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « أعوذ برضاك من سخطك، وبمعفاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك » فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثباته وإجابته.
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله - عز وجل –بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه - عز شأنه - بمن ليس في العير ولا النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض، وإغناء الفقير، ورد الضالة، وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر «إذا أعيتكم الأمور» إلخ، وهو حديث مفترى [ ص: 128 ] على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة.
وقد نهى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه - عليه الصلاة والسلام - الأمر بالاستعانة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وعن أبي يزيد البسطامي - قدس سره - أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
ومن كلام السجاد - رضي الله تعالى عنه -: إن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله.
ومن دعاء موسى - عليه السلام - «وبك المستغاث».
وقال - صلى الله تعالى عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى» الخبر.
وقال تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين .
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن تقضي لي حاجتي: إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضا: إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا.
بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت.
نعم، لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام – شيء، ثم اقتدى بهم من خلقهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر، كما ثبت ذلك في الصحيح.
وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس، والفرار من دعوى تضليلهم - كما يزعمه البعض - في التوسل بجاه عريض الجاه - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب، وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ودرج عليه الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل، إن حقا وإن كذبا.
بقي ها هنا أمران:
الأول: إن التوسل بجاه غير النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم – لا بأس به أيضا، إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى، كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه؛ لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه - عز شأنه - وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى.
الثاني: إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى، القوي الغني الفعال لما يريد، ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في مجمعه من أنه كان في زمن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق – رضي [ ص: 129 ] الله تعالى عنه -: «قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور - الذين هم بين سعيد شغله نعيمه، وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه - أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه.
ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه - عز وجل -وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له، ولقد ساء ما يحكمون؛ لأن التطور والظهور - وإن كانا ممكنين - لكن لا في مثل هذه الصورة، وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك.
وجاهدوا في سبيله مع أعدائكم بما أمكنكم.
لعلكم تفلحون بنيل نعيم الأبد، والخلاص من كل نكد .
Al-Alusi, Tafsir Al-Alusi (Ruhul Maany), hlm. 6/125-126
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته، وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب، أمر المؤمنين بتقواه - عز وجل - في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد وابتغوا إليه أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه الوسيلة هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله - عز وجل - من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها، وقدم عليها للاهتمام، وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: بمحذوف وقع حالا منها، أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة ، فإنه ملاك الأمر كله، والذريعة لكل خير، والمناجاة من كل ضير، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات.
وأخرج ابن الأنباري وغيره، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وكأن المعنى حينئذ: اطلبوا متوجهين إليه حاجتكم؛ فإن بيده - عز شأنه - مقاليد السماوات والأرض، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره، فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة.
وفسر بعضهم الوسيلة بمنزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر؛ لاختصاصها بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بناء على ما رواه مسلم وغيره: « إنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة » وكون الطلب هنا للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى.
واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى [ ص: 125 ] بهم، بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: « إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور » وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه، إن كان المطلوب منه حيا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال لعمر - رضي الله تعالى عنه - لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من دعائك»، وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني - رحمة الله تعالى عليه - أن يستغفر له، وأمر أمته - صلى الله تعالى عليه وسلم - بطلب الوسيلة له كما مر آنفا، وبأن يصلوا عليه.
وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم، السلام على أهل القبور مشروع، ومخاطبتهم جائزة، فقد صح أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء تعالى بكم لاحقون، يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم ».
ولم يرد عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم، وهم أحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يقول إذ دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف، ولا يزيد على ذلك ، ولا يطلب من سيد العالمين - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو من ضجيعيه المكرمين - رضي الله تعالى عنهما – شيئا، وهم أكرم من ضمتهم البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة.
نعم، الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع، فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك، مستقبلين القبلة، ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء، مع أنه أفضل من العرش.
واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه لا يستقبل، بل يستدبر وتستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام، وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار.
فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة، وعلة الإيجاد على الحقيقة - صلى الله تعالى عليه وسلم - فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته - عليه الصلاة والسلام - ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟!
وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح، عن عثمان بن حنيف - رضي الله تعالى عنه - أن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال: «ادع الله تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم - نبي الرحمة، يا رسول الله [ ص: 126 ] إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في » ونقل عن أحمد مثل ذلك.
ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا، وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ، ونقله عن الإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف، أي بدعاء أو شفاعة نبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم - ففيه جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث: « اللهم فشفعه في » بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي - كما هو عادته - على المجد ، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف، حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثلة، انتهى.
وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت، أو نحو ذلك كما تسمع - إن شاء الله تعالى - ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في سننه وغيره من أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك! أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك » لا يصلح دليلا على ما نحن فيه، حيث أنكر عليه قوله: «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله: «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به - صلى الله تعالى عليه وسلم - الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته - صلى الله تعالى عليه وسلم - حيا وميتا، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا؛ قياسا عليه - عليه الصلاة والسلام - بجامع الكرامة، وإن تفاوت قوة وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به.
وتساوي حالتي حياته ووفاته - صلى الله تعالى عليه وسلم - في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري ، عن أنس ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس - رضي الله تعالى عنه - فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم – فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون ».
فإنه لو كان التوسل به - عليه الصلاة والسلام - بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهم يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا - مع أنهم السابقون الأولون - وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبحقوق الله تعالى ورسوله - عليه الصلاة والسلام – وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة، يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع التفاوت في الكرامة [ ص: 127 ] - الذي لا ينكره إلا منافق - مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه - عز شأنه - حيا أو ميتا مما لم يقم النص عليه، لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به - صلى الله تعالى عليه وسلم – حيا، وكذا بغيره كذلك.
أما الأول فلقول عمر - رضي الله تعالى عنه - فيه: «كنا نتوسل بنبيك، صلى الله تعالى عليه وسلم».
وأما الثاني فلقوله: «إنا نتوسل بعم نبيك» لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا.
وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع، وقد علمت الكلام فيه.
وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: اللهم أسألك بجاه فلان، فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته، فيقال: «أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت يا الله، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم»، و«أسألك بأنك أنت الله، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد»، و«أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك» الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة.
وما يذكره بعض العامة من قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي؛ فإن جاهي عند الله تعالى عظيم » لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث.
وما رواه القشيري ، عن معروف الكرخي - قدس سره - أنه قال لتلامذته: »إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي؛ فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن» لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين.
وأما ما رواه ابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في دعاء الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار، وأن يدخلني الجنة » ففي سنده العوفي ، وفيه ضعف، وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا، كما في قوله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين .
وفي الصحيح من حديث معاذ : « حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم » فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة، وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه، فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: « أعوذ برضاك من سخطك، وبمعفاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك » فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثباته وإجابته.
وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله - عز وجل –بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه - عز شأنه - بمن ليس في العير ولا النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض، وإغناء الفقير، ورد الضالة، وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر «إذا أعيتكم الأمور» إلخ، وهو حديث مفترى [ ص: 128 ] على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة.
وقد نهى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه - عليه الصلاة والسلام - الأمر بالاستعانة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وعن أبي يزيد البسطامي - قدس سره - أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
ومن كلام السجاد - رضي الله تعالى عنه -: إن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله.
ومن دعاء موسى - عليه السلام - «وبك المستغاث».
وقال - صلى الله تعالى عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى» الخبر.
وقال تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين .
وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن تقضي لي حاجتي: إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضا: إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا.
بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت.
نعم، لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام – شيء، ثم اقتدى بهم من خلقهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر، كما ثبت ذلك في الصحيح.
وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس، والفرار من دعوى تضليلهم - كما يزعمه البعض - في التوسل بجاه عريض الجاه - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب، وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ودرج عليه الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل، إن حقا وإن كذبا.
بقي ها هنا أمران:
الأول: إن التوسل بجاه غير النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم – لا بأس به أيضا، إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى، كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه؛ لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه - عز شأنه - وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى.
الثاني: إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى، القوي الغني الفعال لما يريد، ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في مجمعه من أنه كان في زمن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق – رضي [ ص: 129 ] الله تعالى عنه -: «قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور - الذين هم بين سعيد شغله نعيمه، وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه - أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه.
ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه - عز وجل -وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له، ولقد ساء ما يحكمون؛ لأن التطور والظهور - وإن كانا ممكنين - لكن لا في مثل هذه الصورة، وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك.
وجاهدوا في سبيله مع أعدائكم بما أمكنكم.
لعلكم تفلحون بنيل نعيم الأبد، والخلاص من كل نكد .