Halal Haram Hewan Laut dan Darat
Halal Haram Hewan Laut dan Darat
وقال قوم : هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي .
وقال مجاهد : صيده : طريه ، وطعامه : مالحه ، متاعا لكم أي : منفعة لكم ، وللسيارة يعني : المارة .
وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره ، أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان [ ودمان : الميتتان ] الحوت والجراد ، والدمان : [ الكبد والطحال ] ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك . [ ص: 101 ]
Halal Haram Hewan Laut dan Darat
تفسير البغوي
الحسين بن مسعود البغوي
سورة المائدة 96 الجزء الثالث ص: 101
( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ( 96 ) قوله عز وجل : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضي الله عنه : " صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به " . وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتا .
وقال قوم : هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي .
وقال مجاهد : صيده : طريه ، وطعامه : مالحه ، متاعا لكم أي : منفعة لكم ، وللسيارة يعني : المارة .
وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره ، أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان [ ودمان : الميتتان ] الحوت والجراد ، والدمان : [ الكبد والطحال ] ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك . [ ص: 101 ]
أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله ، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ، فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك ، وهو معنى قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن [ ميت الماء كلها حلال ] لأن كلها سمك ، وإن اختلفت صورها ، [ كالجريث ] يقال له حية الماء ، وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة ، وبه قال شريح والحسن وعطاء ، وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي .
وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، وما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها .
وقال الأوزاعي كل شيء عيشه في الماء فهو حلال ، قيل : فالتمساح؟ قال نعم .
وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري : أرجو أن لا يكون بالسرطان بأسا .
وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن [ سلمان ] عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . [ ص: 102 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول : غزوت جيش الخبط وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه ، فمر الراكب تحته . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : قال أبو عبيدة : كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم " فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوه .
قوله تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم ، أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم ، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، وللمحرم أخذه وقتله ، ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل ، كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك [ ص: 103 ] عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " .
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقتل المحرم السبع العادي " وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس قتلهن حلال في الحرم : الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور " .
وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك ، وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه ، من الفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفارة ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير ، لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة [ الهوام ] وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه .
***
تفسير القرطبي
محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي
الجزء السادس ص: 242
قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون
فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر هذا حكم بتحليل صيد البحر ، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد ، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب ، وقد مضى القول في البحر في " البقرة " والحمد لله . و ( متاعا ) نصب على المصدر أي : متعتم به متاعا .
الثانية : قوله تعالى : و ( طعامه ) الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم ، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده ، والبر وحده ، والتمر وحده ، واللبن وحده ، وقد يطلق على النوم كما تقدم ; وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه ; أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عز وجل : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة الآية . صيده ما [ ص: 242 ] صيد وطعامه ما لفظ البحر ، وروي عن أبي هريرة مثله ; وهو قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، وروي عن ابن عباس ميتته وهو في ذلك المعنى ، وروي عنه أنه قال : طعامه ما ملح منه وبقي ; وقاله معه جماعة ، وقال قوم : طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره .
الثالثة : قال أبو حنيفة : لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك ، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه ، وكره الحسن أكل الطافي من السمك . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه ، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح ; ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال : الجراد والحيتان ذكي ; فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه ، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة ، وبما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه . قال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر ، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به . وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ; قال الدارقطني : لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان ، وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم ; رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب ، وكذلك رواه أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر وابن جريج ، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قال أبو داود : وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الدارقطني : وروي عن إسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره ، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري في رواية الأشجعي : يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب ، وسائر ما في البحر من الحيوان ، وسواء اصطيد أو وجد ميتا ، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت [ ص: 243 ] الذي يقال له : ( العنبر ) وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان ، وفيه : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ; لفظ مسلم وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها ، وأسند عنه أيضا أنه قال : أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء ، وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه ، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال : أطيبة هي لم تتغير ؟ قالوا : نعم قال : فكلوها وارفعوا نصيبي منها ; وكان صائما ، وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال : أهدوها إلي ، وقال عمر بن الخطاب : الحوت ذكي والجراد ذكي كله ; رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية ، وهو حجة للجمهور ; إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال : أنتم تقولون خنزيرا ! وقال الشافعي : لا بأس بخنزير الماء وقال الليث : ليس بميتة البحر بأس . قال : وكذلك كلب الماء وفرس الماء . قال : ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء .
الرابعة : اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا ؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم : كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر ، إن قتله المحرم وداه ، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان . الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع ، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك ، والصحيح أكل ذلك كله ; لأنه نص على الخنزير في جواز أكله ، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل ، ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين ، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب . قال ابن عطية : ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر ، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في " المدونة " فإنه قال : الضفادع من صيد البحر ، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه ، وهو أنه يراعى أكثر عيش الحيوان ; سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر ؟ فقال : حيث يكون أكثر فهو منه ، وحيث يفرخ فهو منه ; وهو قول أبي حنيفة ، والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب . قال ابن [ ص: 244 ] العربي : الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه ; لأنه تعارض فيه دليلان ، دليل تحليل ودليل تحريم ، فيغلب دليل التحريم احتياطا ، والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : وللسيارة فيه قولان : أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم ، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام ، كما أحله لمن سافر . الثاني : أن السيارة هم الذين يركبونه ، كما جاء في حديث مالك والنسائي : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته قال ابن العربي قاله علماؤنا : فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم ) لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش ; لأن الجواب مرتبط بالسؤال ، فكان يكون محالا عليه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة ، وبيان الشرع فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .
قلت : وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم ، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع ، إلا ما نص بالتخصيص عليه ، كقوله لأبي بردة في العناق : ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك .
السادسة : قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما الأولى : التحريم ليس صفة للأعيان ، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله : وحرم عليكم صيد البر أي : فعل الصيد ، وهو المنع من الاصطياد ، أو يكون الصيد بمعنى المصيد ، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم ، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك ; لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي .
السابعة : اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق ، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان : إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ، ولا من أجله ، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم قال أبو عيسى : هذا أحسن حديث في الباب ; وقال النسائي : عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث ، وإن [ ص: 245 ] كان قد روى عنه مالك . فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه ، وبه قال الحسن بن صالح والأوزاعي ، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه ، والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم : كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي ; وبه قالت طائفة من أهل المدينة ، وروي عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فحرم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم . واحتجوا بحديث البهزي - واسمه زيد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق ، من حديث مالك وغيره . وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إنما هي طعمة أطعمكموها الله ، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه ، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ; لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما . قال ابن عباس : هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحاق . واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي ، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ; قال : فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم خرجه الأئمة واللفظ لمالك . قال أبو عمر : وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه ، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش ; وقال سعيد بن جبير في حديثه : ( عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت ) ; وقال مقسم في حديثه : ( رجل حمار وحش ) . وقال عطاء في حديثه : أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال : إنا حرم وقال طاوس في حديثه : عضدا من لحم صيد ; حدث به إسماعيل عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم . قال إسماعيل : سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من [ ص: 246 ] أجل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لكان أكله جائزا ; قال سليمان : ومما يدل على أنه صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث : فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت . قال إسماعيل : إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل ; فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل ; لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه ; قال إسماعيل : وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى .
الثامنة : إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك : إن كان في يده فعليه إرساله ، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ، وقال الشافعي في أحد قوليه : سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله ، وبه قال أبو ثور ، وروي عن مجاهد وعبد الله بن الحارث مثله وروي عن مالك ، وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر : عليه أن يرسله ، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن ، وجه القول بإرساله قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وهذا عام في الملك والتصرف كله ، ووجه القول بإمساكه : أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه ، أصله النكاح .
التاسعة : فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه ، وأكل لحمه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز . ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال ، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها .
العاشرة : إذا دل المحرم حلا على صيد فقتله الحلال اختلف فيه ، فقال مالك والشافعي وأبو ثور : لا شيء عليه ، وهو قول ابن الماجشون ، وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين : عليه الجزاء ; لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض ; فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة .
الحادية عشرة : واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر ; فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء ، وقال مالك والشافعي وأبو ثور : الجزاء على المحرم القاتل ; لقوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فعلق وجوب الجزاء بالقتل ، فدل على انتفائه بغيره ; ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في [ ص: 247 ] الحرم ، وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة : هل أشرتم أو أعنتم ؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء ، والأول أصح ، والله أعلم .
الثانية عشرة : إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء ; لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين : الجزاء نظرا إلى الأصل ، ونفيه نظرا إلى الفرع .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم ، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، والله أعلم .
***
التفسير الكبير
الإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) .
قوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بالصيد المصيد ، وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، واختلفوا فيما سوى هذين . فقال أبو حنيفة رحمه الله : إنه حرام . وقال ابن أبي ليلى والأكثرون : إنه حلال ، وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية ، والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار .
المسألة الثانية : أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوها :
الأول وهو الأحسن : ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه ، هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع .
والوجه الثاني : أن صيد البحر هو الطري ، وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحا ؛ لأنه لما صار عتيقا سقط اسم الصيد عنه ، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي ، وهو ضعيف لأن الذي صار مالحا فقد كان طريا وصيدا في أول الأمر فيلزم التكرار .
والثالث : أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ ، واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها ، فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : السمكة الطافية في البحر محللة . وقال أبو حنيفة رحمه الله : محرمة ، حجة الشافعي القرآن والخبر ، أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاما فوجب أن يحل لقوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
[ ص: 82 ] المسألة الرابعة : قوله : ( وللسيارة ) يعني أحل لكم صيد البحر للمقيم والمسافر ، فالطري للمقيم ، والمالح للمسافر .
المسألة الخامسة : في انتصاب قوله : ( متاعا لكم ) وجهان :
الأول : قال الزجاج انتصب لكونه مصدرا مؤكدا ، إلا أنه لما قيل : ( أحل لكم ) كان دليلا على أنه منعم به ، كما أنه لما قيل : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) [النساء : 23] كان دليلا على أنه كتب عليهم ذلك ، فقال : كتب الله عليكم .
الثاني : قال صاحب "الكشاف " : انتصب لكونه مفعولا له ، أي أحل لكم تمتيعا لكم .
ثم قال تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة ، من قوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) إلى قوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ومن قوله : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) إلى قوله : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) .
المسألة الثانية : صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء ، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى ، فذاك كله صيد البر ، فعلى هذا السلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء ، كل ذلك من صيد البر ، ويجب على قاتله الجزاء .
المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد ، واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم ؟ فيه أربعة أقوال ، الأول : وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس ، وذكره الثوري وإسحاق ؛ أنه يحرم عليه بكل حال ، وعولوا فيه على قوله : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال ، وكل ذلك صيد البر ، وروى أبو داود في سننه عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاما ، وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش ، فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء ، فقالوا له : كل ، فقال علي : أطعمونا قوتا حلالا فإنا حرم ، ثم قال علي عليه السلام : أنشد الله من كان هاهنا من أشجع ، أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله ؟ فقالوا : نعم .
والقول الثاني : أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، والحجة فيه ما روى أبو داود في سننه عن جابر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم .
والقول الثالث : أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له ، فسألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه فقال : هل أشرتم ، هل أعنتم ؟ فقالوا : لا . فقال : هل بقي من لحمه شيء ؟ أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والإعانة من غير تفصيل .
[ ص: 83 ] واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد .
والثاني في غاية الضعف .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظبا على الطاعة محترزا عن المعصية .
تفسير البغوي
الحسين بن مسعود البغوي
سورة المائدة 96 الجزء الثالث ص: 101
( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ( 96 ) قوله عز وجل : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضي الله عنه : " صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به " . وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتا .
وقال قوم : هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي .
وقال مجاهد : صيده : طريه ، وطعامه : مالحه ، متاعا لكم أي : منفعة لكم ، وللسيارة يعني : المارة .
وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره ، أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان [ ودمان : الميتتان ] الحوت والجراد ، والدمان : [ الكبد والطحال ] ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك . [ ص: 101 ]
أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله ، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ، فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك ، وهو معنى قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن [ ميت الماء كلها حلال ] لأن كلها سمك ، وإن اختلفت صورها ، [ كالجريث ] يقال له حية الماء ، وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة ، وبه قال شريح والحسن وعطاء ، وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي .
وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، وما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها .
وقال الأوزاعي كل شيء عيشه في الماء فهو حلال ، قيل : فالتمساح؟ قال نعم .
وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري : أرجو أن لا يكون بالسرطان بأسا .
وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن [ سلمان ] عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . [ ص: 102 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول : غزوت جيش الخبط وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه ، فمر الراكب تحته . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : قال أبو عبيدة : كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم " فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوه .
قوله تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم ، أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم ، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، وللمحرم أخذه وقتله ، ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل ، كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك [ ص: 103 ] عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " .
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقتل المحرم السبع العادي " وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس قتلهن حلال في الحرم : الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور " .
وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك ، وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه ، من الفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفارة ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير ، لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة [ الهوام ] وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه .
***
تفسير القرطبي
محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي
الجزء السادس ص: 242
قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون
فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر هذا حكم بتحليل صيد البحر ، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد ، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب ، وقد مضى القول في البحر في " البقرة " والحمد لله . و ( متاعا ) نصب على المصدر أي : متعتم به متاعا .
الثانية : قوله تعالى : و ( طعامه ) الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم ، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده ، والبر وحده ، والتمر وحده ، واللبن وحده ، وقد يطلق على النوم كما تقدم ; وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه ; أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عز وجل : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة الآية . صيده ما [ ص: 242 ] صيد وطعامه ما لفظ البحر ، وروي عن أبي هريرة مثله ; وهو قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، وروي عن ابن عباس ميتته وهو في ذلك المعنى ، وروي عنه أنه قال : طعامه ما ملح منه وبقي ; وقاله معه جماعة ، وقال قوم : طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره .
الثالثة : قال أبو حنيفة : لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك ، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه ، وكره الحسن أكل الطافي من السمك . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه ، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح ; ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال : الجراد والحيتان ذكي ; فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه ، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة ، وبما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه . قال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر ، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به . وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ; قال الدارقطني : لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان ، وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم ; رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب ، وكذلك رواه أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر وابن جريج ، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قال أبو داود : وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الدارقطني : وروي عن إسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره ، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري في رواية الأشجعي : يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب ، وسائر ما في البحر من الحيوان ، وسواء اصطيد أو وجد ميتا ، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت [ ص: 243 ] الذي يقال له : ( العنبر ) وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان ، وفيه : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ; لفظ مسلم وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها ، وأسند عنه أيضا أنه قال : أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء ، وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه ، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال : أطيبة هي لم تتغير ؟ قالوا : نعم قال : فكلوها وارفعوا نصيبي منها ; وكان صائما ، وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال : أهدوها إلي ، وقال عمر بن الخطاب : الحوت ذكي والجراد ذكي كله ; رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية ، وهو حجة للجمهور ; إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال : أنتم تقولون خنزيرا ! وقال الشافعي : لا بأس بخنزير الماء وقال الليث : ليس بميتة البحر بأس . قال : وكذلك كلب الماء وفرس الماء . قال : ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء .
الرابعة : اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا ؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم : كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر ، إن قتله المحرم وداه ، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان . الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع ، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك ، والصحيح أكل ذلك كله ; لأنه نص على الخنزير في جواز أكله ، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل ، ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين ، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب . قال ابن عطية : ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر ، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في " المدونة " فإنه قال : الضفادع من صيد البحر ، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه ، وهو أنه يراعى أكثر عيش الحيوان ; سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر ؟ فقال : حيث يكون أكثر فهو منه ، وحيث يفرخ فهو منه ; وهو قول أبي حنيفة ، والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب . قال ابن [ ص: 244 ] العربي : الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه ; لأنه تعارض فيه دليلان ، دليل تحليل ودليل تحريم ، فيغلب دليل التحريم احتياطا ، والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : وللسيارة فيه قولان : أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم ، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام ، كما أحله لمن سافر . الثاني : أن السيارة هم الذين يركبونه ، كما جاء في حديث مالك والنسائي : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته قال ابن العربي قاله علماؤنا : فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم ) لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش ; لأن الجواب مرتبط بالسؤال ، فكان يكون محالا عليه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة ، وبيان الشرع فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .
قلت : وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم ، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع ، إلا ما نص بالتخصيص عليه ، كقوله لأبي بردة في العناق : ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك .
السادسة : قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما الأولى : التحريم ليس صفة للأعيان ، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله : وحرم عليكم صيد البر أي : فعل الصيد ، وهو المنع من الاصطياد ، أو يكون الصيد بمعنى المصيد ، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم ، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك ; لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي .
السابعة : اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق ، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان : إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ، ولا من أجله ، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم قال أبو عيسى : هذا أحسن حديث في الباب ; وقال النسائي : عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث ، وإن [ ص: 245 ] كان قد روى عنه مالك . فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه ، وبه قال الحسن بن صالح والأوزاعي ، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه ، والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم : كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي ; وبه قالت طائفة من أهل المدينة ، وروي عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فحرم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم . واحتجوا بحديث البهزي - واسمه زيد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق ، من حديث مالك وغيره . وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إنما هي طعمة أطعمكموها الله ، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه ، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ; لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما . قال ابن عباس : هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحاق . واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي ، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ; قال : فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم خرجه الأئمة واللفظ لمالك . قال أبو عمر : وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه ، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش ; وقال سعيد بن جبير في حديثه : ( عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت ) ; وقال مقسم في حديثه : ( رجل حمار وحش ) . وقال عطاء في حديثه : أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال : إنا حرم وقال طاوس في حديثه : عضدا من لحم صيد ; حدث به إسماعيل عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم . قال إسماعيل : سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من [ ص: 246 ] أجل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لكان أكله جائزا ; قال سليمان : ومما يدل على أنه صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث : فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت . قال إسماعيل : إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل ; فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل ; لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه ; قال إسماعيل : وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى .
الثامنة : إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك : إن كان في يده فعليه إرساله ، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ، وقال الشافعي في أحد قوليه : سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله ، وبه قال أبو ثور ، وروي عن مجاهد وعبد الله بن الحارث مثله وروي عن مالك ، وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر : عليه أن يرسله ، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن ، وجه القول بإرساله قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وهذا عام في الملك والتصرف كله ، ووجه القول بإمساكه : أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه ، أصله النكاح .
التاسعة : فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه ، وأكل لحمه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز . ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال ، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها .
العاشرة : إذا دل المحرم حلا على صيد فقتله الحلال اختلف فيه ، فقال مالك والشافعي وأبو ثور : لا شيء عليه ، وهو قول ابن الماجشون ، وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين : عليه الجزاء ; لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض ; فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة .
الحادية عشرة : واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر ; فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء ، وقال مالك والشافعي وأبو ثور : الجزاء على المحرم القاتل ; لقوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فعلق وجوب الجزاء بالقتل ، فدل على انتفائه بغيره ; ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في [ ص: 247 ] الحرم ، وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة : هل أشرتم أو أعنتم ؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء ، والأول أصح ، والله أعلم .
الثانية عشرة : إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء ; لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين : الجزاء نظرا إلى الأصل ، ونفيه نظرا إلى الفرع .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم ، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، والله أعلم .
***
التفسير الكبير
الإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) .
قوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بالصيد المصيد ، وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، واختلفوا فيما سوى هذين . فقال أبو حنيفة رحمه الله : إنه حرام . وقال ابن أبي ليلى والأكثرون : إنه حلال ، وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية ، والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار .
المسألة الثانية : أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوها :
الأول وهو الأحسن : ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه ، هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع .
والوجه الثاني : أن صيد البحر هو الطري ، وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحا ؛ لأنه لما صار عتيقا سقط اسم الصيد عنه ، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي ، وهو ضعيف لأن الذي صار مالحا فقد كان طريا وصيدا في أول الأمر فيلزم التكرار .
والثالث : أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ ، واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها ، فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : السمكة الطافية في البحر محللة . وقال أبو حنيفة رحمه الله : محرمة ، حجة الشافعي القرآن والخبر ، أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاما فوجب أن يحل لقوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
[ ص: 82 ] المسألة الرابعة : قوله : ( وللسيارة ) يعني أحل لكم صيد البحر للمقيم والمسافر ، فالطري للمقيم ، والمالح للمسافر .
المسألة الخامسة : في انتصاب قوله : ( متاعا لكم ) وجهان :
الأول : قال الزجاج انتصب لكونه مصدرا مؤكدا ، إلا أنه لما قيل : ( أحل لكم ) كان دليلا على أنه منعم به ، كما أنه لما قيل : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) [النساء : 23] كان دليلا على أنه كتب عليهم ذلك ، فقال : كتب الله عليكم .
الثاني : قال صاحب "الكشاف " : انتصب لكونه مفعولا له ، أي أحل لكم تمتيعا لكم .
ثم قال تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة ، من قوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) إلى قوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ومن قوله : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) إلى قوله : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) .
المسألة الثانية : صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء ، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى ، فذاك كله صيد البر ، فعلى هذا السلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء ، كل ذلك من صيد البر ، ويجب على قاتله الجزاء .
المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد ، واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم ؟ فيه أربعة أقوال ، الأول : وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس ، وذكره الثوري وإسحاق ؛ أنه يحرم عليه بكل حال ، وعولوا فيه على قوله : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال ، وكل ذلك صيد البر ، وروى أبو داود في سننه عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاما ، وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش ، فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء ، فقالوا له : كل ، فقال علي : أطعمونا قوتا حلالا فإنا حرم ، ثم قال علي عليه السلام : أنشد الله من كان هاهنا من أشجع ، أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله ؟ فقالوا : نعم .
والقول الثاني : أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، والحجة فيه ما روى أبو داود في سننه عن جابر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم .
والقول الثالث : أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له ، فسألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه فقال : هل أشرتم ، هل أعنتم ؟ فقالوا : لا . فقال : هل بقي من لحمه شيء ؟ أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والإعانة من غير تفصيل .
[ ص: 83 ] واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد .
والثاني في غاية الضعف .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظبا على الطاعة محترزا عن المعصية .