Membelanjakan Harta Haram
cara Membelanjakan dan Menggunakan Harta Haram
Membelanjakan dan Menggunakan Harta Haram
التصرف بالمال الحرام
يقع التصرف بالمال الحرام على حالتين نبينها كالتالي:
الأول: الإنفاق له في وجوه الخير:
ويكون هذا التصرف في حالة عدم إمكان تمييز الجزء الحلال من هذا المال عن غيره، بشرط جواز رد ذلك المال إلى صاحبه، وشرط هذا الجواز أن لا يكون أخذ مقابل منفعة محرمة.
ومما يدل على ذلك:
1- ما رواه أبو داود بإسناده عن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: «خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوك لقمة في فمه، ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة فقالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إليَّ بها. فقال: أطعميه الأسارى»(1)، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بالتصدق بالشاة المطبوخة التي قدمت له ولأصحابه؛ لما علم أن الشاة أخذت بغير إذن صاحبها. قال العلامة علي القاري: (فظهر أن شراءها غير صحيح؛ لأن إذن جارها ورضاه غير صحيح)(2).
2- القياس:
حيث قاس بعض أهل العلم التخلص من المال بالتصدق به، قاسوه على اللقطة، إن تعذر ردها إلى مالكها، فإن الملتقط يتصدق بها، وينبغي أن يعلم أن إخراج المال الحرام، والتحلل منه، ودفعه إلى الفقراء والمساكين، يسمى صدقة، بالنظر إلى الفقير، لا بالنظر إلى المعطي، ذلك أن التائب من المال الحرام يكون بإخراجه إلى الفقراء والمساكين قد فعله لأجل أن تقبل توبته، لا لأجل الأجر والثواب، فهذا الإخراج من مكملات التوبة وشروطها، ولا أجر لهذا الشخص في هذا التصرف.
العلماء الذين أفتوا بذلك:
1- الإمام الزهري:
سئل الزهري عن رجل يصيب المال الحرام؟ قال إن سره أن يتبرأ منه فليخرج منه(3)، وعليه فينبغي على المسلم أن يتخلص من هذا المال الحرام، بصرفه كله إلى الفقراء والمساكين، أو صرفه في مصالح المسلمين العامة، كبناء مدرسة أو مستشفى أو إصلاح طريق أو المرافق العامة ونحو ذلك، ولا يحل له أن ينتفع به هو أو أهله أو عياله، ولا يحل له أن يحتفظ بهذا المال؛ لأنه اكتسبه من طريق غير مشروع. وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به، ومن هؤلاء العلماء الذين ذكروا ذلك:
2- الإمام القرطبي:
حيث قال عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 297]. ما نصه: (قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام، إن كانت ربًا، فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرًا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم، فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر، ولم يدرِ كم الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته، فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين...)(4).
3- شيخ الإسلام ابن تيمية: حيث أفتى:
1- بأن البغي والخمّار إذا تابوا، وكانوا فقراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كانوا يقدرون على أن يتجروا أو يعملوا صنعة، كالنسج والغزل، أعطوا ما يكون لهم رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئاً ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.(5)
2- ويقول: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء، كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو هون، قد يئس من معرفة أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل، يصرفها في مصالح المسلمين المصالح الشرعية.
ومن الفقهاء من يقول: يتوقف أبداً حتى يتبين أصحابها. والصواب الأول، فإن حبس المال دائماً لمن لا يرجى، لا فائدة فيه، بل هو تعرض لهلاك المال واستيلاء الظلمة عليه، وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية، فدخل بيته ليأتي بالثمن، فخرج فلم يجد البائع، فجعل يطوف على المساكين ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول: اللهم عن رب الجارية، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعلي له مثله يوم القيامة. وكذلك أفتى بعض التابعين فيمن غل من الغنيمة وتاب بعد تفرقهم، أن يتصدق بذلك عنهم، ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم، كمعاوية وغيره من أهل الشام.(6)
ثم جاء العلماء المتأخرون موافقين لهم، ومن هؤلاء:
4- الشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان:
حيث يقول عن التصرف في الفوائد الربوية: (اعلم يا أخي إن إيداع النقود أو فتح حساب في البنك بنية أخذ ربا (فوائد) حرام لا يجوز ولو بنية صرف هذه الفوائد في سبيل الدعوة إلى الله؛ لأن الله حرم الربا بنص كتابه، وحرم رسوله -صلى الله عليه وسلم- كل وسيلة تعين عليه: «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه»(7). أما إذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا، كحال عامة البنوك في الدول الغربية، والإيداع في مثل هذه البنوك ضرورة لا بد منها، فهل تؤخذ هذه الفوائد الربوية أم لا؟ اختلف أهل العلم اليوم في هذا، فمنهم من منع ذلك؛ أخذاً بظاهر نصوص القرآن كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس﴾ [البقرة: 275]، وقوله: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً..»(8)، وقال بعض العلماء بجواز أخذ هذه الفوائد الربوية من تلك البنوك، وصرفها في مصارف الخير؛ بنية التخلص منها لا بنية الصدقة؛ لأنها مال خبيث، ولعل هذا القول هو الأرجح عندي -إن شاء الله-؛ لأن هذه الفوائد مع ضخامتها، لو تركت عند البنوك الربوية في مثل هذه البلاد الكافرة؛ لتقوى بها اقتصادها، وعاد ضررها على المسلمين، وإذا كان الأمر كذلك على هذا القول، فالواجب عليك - أخي السائل- أن تجتهد في صرف هذا المال -المسؤول عنه- في أولويات أعمال المركز عندكم وأنشطته، ما دامت في خدمة الدعوة إلى الله في بلاد الغربة، من دعوة غير المسلمين، وتأليف قلوبهم، ونشر الكتب والأشرطة التي تشرح العقيدة والأحكام الضرورية، وأنصح المسلمين بألا يأكلوا أو يشربوا مما صرف من هذه الفوائد على الطعام والشراب مما قد يوضع في المركز، وهذا من باب قول الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16], فالله الله في تدبر هذه الآية، على وفق جوابي لسؤالك، وفقنا الله وإياك إلى كل خير.(9)
5- الشيخ عبد الله بن منيع:
سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع -حفظه الله-: ما حكم أخذ الفوائد الربوية من الحساب البنكي الخاص بي، وذلك لصرفه للمركز الإسلامي الموجود في المدينة أو توزيعها على المحتاجين من المسلمين؟ علماً أنه يوجد حساب بنكي بدون فوائد ربوية.
فأجاب: الحمد لله، الفوائد البنكية ربا صريح، وإذا كان للمسلم حساب في بنك ربوي في مثل أمريكا، وليس هناك بنوك إسلامية يمكن فتح حسابات فيها، فهذا مسوغ للإيداع فيها؛ حفظاً للمال من عوارض الإضاعة والتسلط، وليس لغرض أخذ الفائدة، فإذا ظهر في الإيداع فائدة ربوية، فيجب أخذها وصرفها في وجوه البر، تخلُّصاً منها، ومنعاً من أن تصرف إلى جهة غير إسلامية. ولكن لا يجوز الإيداع في البنوك الربوية لغرض الاستثمار الربوي؛ لصرفه في وجوه الخير، حيث قد ينطبق على ذلك قول الشاعر فيمن تزني وتدفع أجرة زناها للأيتام:
أمطعمة الأيتام من كدِّ فرجها *** لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي
والله أعلم.(10)
تنبيه مهم:
يشترط لهذه الفتيا عدم إمكان تمييز الجزء الحرام من المال من الحلال، أو عدم معرفة صاحب المال الحرام، الذي يجوز رد المال إليه، مع كون مالك المال الحرام لا يستطيع أن يستغني عنه، ويفهم هذا جلياً من تمام فتوى ابن تيمية.
حيث أفتى بأن البغي والخمار إذا تابوا وكانوا فقراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كانوا يقدرون على أن يتجروا أو يعملوا صنعة، كالنسج والغزل أعطوا ما يكون لهم رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئاً ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.(11)
الثاني: أن يعرف المالك له الذي يحل له ملكه:
فهنا لابد من إرجاع المال لصاحبه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان، فيدفعه إلى صاحبه وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته، تصدق به عنه.
خلاصة لكيفية التصرف بالمال الحرام:
سئل شيخ الإسلام ابن القيم عن ذلك: فأجاب بقوله: (هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي: (أن من قبض ما ليس له قبضه شرعاً، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه ولا استوفى عوضه، رده عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به ديناً يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك، تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة، كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم)(12).
ولابد هنا من التنويه على أن المال المحرم نوعان:
النوع الأول: المحرم لوصفه:
ويقصد بذلك المال الذي يكون أصله حلال، لكنه قد اتصف بصفة جعلته حراماً، ككونه أخذ بطريق رباً، أو أجرة على فعلٍ محرم كغناءٍ ونحوه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً، وقد تابت، وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟
فأجاب: المال المكسوب إن كانت عيناً أو منفعة، مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد، مثل من يبيع عنباً لمن يتخذه خمراً، أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها، فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله.(13)
النوع الثاني: المحرم لعينه:
ويقصد به ما كان محرماً لذاته، فلا يحل في أي زمان ولا مكان، ومن أمثلتها أجرة الزنا، وقيمة الخمر، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فقال: (وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة، كمهر البغي وثمن الخمر، فهنا لا يقضي له به قبل القبض، ولو أعطاه إياه، لم يحكم برده، فإن هذا معونة لهم على المعاصي، إذا جمع لهم بين العوض والمعوض، ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين.
و أما إذا تصدق به؛ لاعتقاده أنه يحل له أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله؛ لأن الله لا يقبل إلا الطيب، فهذا خبيث، كما قال النبي -صلى الله عليه و سلم-: «مهر البغي خبيث»(14).
2- وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصي عليه، وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة، إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهراً، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث، كما حكم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجاً إليه، فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عيناً كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.
تنبيه: يحرم رد المال الذي أخذ عوضاً على محرم إلى صاحبه:
ترد هاهنا شبهة لابد من الإجابة عليها، مفادها كالآتي:
الشبهة:
أنه إذا جاز صرف هذه الأموال المحرمة إلى وجوه الخير، فصرفها إلى أصحابها الأصليين جائز عند احتياجهم إليها من باب أولى؟
وذلك بأن يقال: الدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز له دفعه، بل حجر عليه الشارع في ذلك التصرف، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك، وسر المسألة أنه محجور عليه شرعاً في هذا الدفع فيجب رده إليه.
الرد على الشبهة:
هذا قياس فاسد؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض، لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه؛ لتعلق حق غيره به،أو حق نفسه المقدمة على غيره.
وأما ما نحن فيه فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، وقد قبض عوضاً محرماً، وأقبض مالا محرماً، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالاً محرماً، والدافع استوفى عوضاً محرماً.
وقضية العدل ترادُّ العوضين، لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائماً بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها وجب رد المال في الصورتين قطعاً، كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض.
فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنـزلة عدمه إذ الممنوع شرعاً، كالممنوع حساً، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟
قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه، وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟
فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره فلا فرق بينهما وهذا واضح بحمد الله
وقد توقف شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله أو الصدقة به في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته، وأخذ عوضها جميعاً منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمراً أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني من صرف القوة التي عمل بها. ثم أورد على نفسه سؤالاً، فقال: فيقال على هذا فينبغي أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها. وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقداً لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة فإذا قبضها وقال الدافع هذا المال: اقضوا لي برده فإني أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل قال: وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد انتهى
وقد نص أحمد في رواية أبى النضر فيمن حمل خمراً أو خنزيراً أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضى للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق: إحداها: إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة. قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضي له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه، وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء، وإن كان محرماً، كإجارة الحجام انتهى فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريق الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة، وهي أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديماً.
الطريقة الثالثة: تخريج هذه المسالة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية: لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل، وهذا على قياس قوله في الخمر: لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها. قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير وقد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها، ولأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرمٍ لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه. والمنصور عندهم: الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق أجرة، ولا يقضى له بها، وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير أو مطلقاً، فأما إذا استأجره لحملها؛ ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء؛ لئلا يتأذى بها، فإن الإجارة تجوز حينئذ؛ لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك، والظاهر: أنه مذهب الشافعي، وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فمذهبه كالرواية الأولى أنه: تصح الإجارة ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقاً لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء، وله أن يحمل شيئاً آخر غيره، كخل وزيت، وهكذا قال: فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة أو ليبيع فيها الخمر. قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء، كان ذكرها وتركها سواء، كما لو اكترى داراً؛ لينام فيها أو ليسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه، وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول: فيما إذا استأجر رجلاً ليحمل خمراً أو ميتة أو خنـزيراً، أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمله بدله عصيراً استحق الأجرة، فهذا التقييد عندهم لغو، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال: لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره. وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها في المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض، وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى داراً ليتخذها مسجداً، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة.
ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن عاصر الخمر ومعتصرها، والعاصر إنما يعصر عصيراً، ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمراً فيعصره له استحق اللعنة.
قالوا: وأيضاً فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه -صلى الله عليه وسلم- بتحريم العينة، وما يترتب عليها من العقوبة.
قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن موسى، يعني أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه»(15). فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضاً، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنباً وعصيراً لمن يتخذه خمراً وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجاناً، بل يقضى له بعوضه، كذلك هنا، المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجاناً، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها، إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها جاز، ثم نحن نحرم الأجرة عليه؛ لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم؛ لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمراً، فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة والجعالة -يعني الإجارة- على حمل الخمر والميتة، لا توصف بالصحة مطلقاً ولا بالفساد مطلقاً، بل يقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجر، ولهذا في الشريعة نظائر. قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرمٍ النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه. قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية، قد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئاً، ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم، كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك، بخلاف من سلم إليهم عملاً لا قيمة له بحال، يعني كالزانية والمغني والنائحة، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك وبينّا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله. والله الموفق للصواب.
إعداد وترتيب: فيصل الرازقي.
راجعه وخرج أحاديثه: عادل البعداني
وعلي بن عبد الرحمن دبيس.
______________________
(1) أخرجه الألباني 2/ 263، برقم 3332، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/ 196.
(2) مرقاة المفاتيح 10/ 297.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 4/ 561.
(4) تفسير القرطبي 3/ 366.
(5) مجموع الفتاوى 29/ 308.
(6) مجموع الفتاوى 29/ 322.
(7) أخرجه مسلم 3/ 1218، برقم 1598.
(8) أخرجه مسلم، 2/ 703، برقم1015.
(9) أنظر: موقع: الإسلام اليوم.
(10) أنظر: موقع: الإسلام اليوم.
(11) مجموع الفتاوى 29/ 308.
(12) زاد المعاد 5/ 690.
(13) مجموع الفتاوى 29/ 309.
(14) أخرجه مسلم 3/ 1199، برقم 1568.
(15) سنن أبى داوود 2/ 350، برقم 3674، وصححه الألباني في الإرواء 1/ 474، برقم 23
المصدر
التصرف بالمال الحرام
يقع التصرف بالمال الحرام على حالتين نبينها كالتالي:
الأول: الإنفاق له في وجوه الخير:
ويكون هذا التصرف في حالة عدم إمكان تمييز الجزء الحلال من هذا المال عن غيره، بشرط جواز رد ذلك المال إلى صاحبه، وشرط هذا الجواز أن لا يكون أخذ مقابل منفعة محرمة.
ومما يدل على ذلك:
1- ما رواه أبو داود بإسناده عن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: «خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوك لقمة في فمه، ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة فقالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إليَّ بها. فقال: أطعميه الأسارى»(1)، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بالتصدق بالشاة المطبوخة التي قدمت له ولأصحابه؛ لما علم أن الشاة أخذت بغير إذن صاحبها. قال العلامة علي القاري: (فظهر أن شراءها غير صحيح؛ لأن إذن جارها ورضاه غير صحيح)(2).
2- القياس:
حيث قاس بعض أهل العلم التخلص من المال بالتصدق به، قاسوه على اللقطة، إن تعذر ردها إلى مالكها، فإن الملتقط يتصدق بها، وينبغي أن يعلم أن إخراج المال الحرام، والتحلل منه، ودفعه إلى الفقراء والمساكين، يسمى صدقة، بالنظر إلى الفقير، لا بالنظر إلى المعطي، ذلك أن التائب من المال الحرام يكون بإخراجه إلى الفقراء والمساكين قد فعله لأجل أن تقبل توبته، لا لأجل الأجر والثواب، فهذا الإخراج من مكملات التوبة وشروطها، ولا أجر لهذا الشخص في هذا التصرف.
العلماء الذين أفتوا بذلك:
1- الإمام الزهري:
سئل الزهري عن رجل يصيب المال الحرام؟ قال إن سره أن يتبرأ منه فليخرج منه(3)، وعليه فينبغي على المسلم أن يتخلص من هذا المال الحرام، بصرفه كله إلى الفقراء والمساكين، أو صرفه في مصالح المسلمين العامة، كبناء مدرسة أو مستشفى أو إصلاح طريق أو المرافق العامة ونحو ذلك، ولا يحل له أن ينتفع به هو أو أهله أو عياله، ولا يحل له أن يحتفظ بهذا المال؛ لأنه اكتسبه من طريق غير مشروع. وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به، ومن هؤلاء العلماء الذين ذكروا ذلك:
2- الإمام القرطبي:
حيث قال عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 297]. ما نصه: (قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام، إن كانت ربًا، فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرًا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم، فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر، ولم يدرِ كم الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته، فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين...)(4).
3- شيخ الإسلام ابن تيمية: حيث أفتى:
1- بأن البغي والخمّار إذا تابوا، وكانوا فقراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كانوا يقدرون على أن يتجروا أو يعملوا صنعة، كالنسج والغزل، أعطوا ما يكون لهم رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئاً ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.(5)
2- ويقول: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء، كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو هون، قد يئس من معرفة أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل، يصرفها في مصالح المسلمين المصالح الشرعية.
ومن الفقهاء من يقول: يتوقف أبداً حتى يتبين أصحابها. والصواب الأول، فإن حبس المال دائماً لمن لا يرجى، لا فائدة فيه، بل هو تعرض لهلاك المال واستيلاء الظلمة عليه، وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية، فدخل بيته ليأتي بالثمن، فخرج فلم يجد البائع، فجعل يطوف على المساكين ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول: اللهم عن رب الجارية، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعلي له مثله يوم القيامة. وكذلك أفتى بعض التابعين فيمن غل من الغنيمة وتاب بعد تفرقهم، أن يتصدق بذلك عنهم، ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم، كمعاوية وغيره من أهل الشام.(6)
ثم جاء العلماء المتأخرون موافقين لهم، ومن هؤلاء:
4- الشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان:
حيث يقول عن التصرف في الفوائد الربوية: (اعلم يا أخي إن إيداع النقود أو فتح حساب في البنك بنية أخذ ربا (فوائد) حرام لا يجوز ولو بنية صرف هذه الفوائد في سبيل الدعوة إلى الله؛ لأن الله حرم الربا بنص كتابه، وحرم رسوله -صلى الله عليه وسلم- كل وسيلة تعين عليه: «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه»(7). أما إذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا، كحال عامة البنوك في الدول الغربية، والإيداع في مثل هذه البنوك ضرورة لا بد منها، فهل تؤخذ هذه الفوائد الربوية أم لا؟ اختلف أهل العلم اليوم في هذا، فمنهم من منع ذلك؛ أخذاً بظاهر نصوص القرآن كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس﴾ [البقرة: 275]، وقوله: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً..»(8)، وقال بعض العلماء بجواز أخذ هذه الفوائد الربوية من تلك البنوك، وصرفها في مصارف الخير؛ بنية التخلص منها لا بنية الصدقة؛ لأنها مال خبيث، ولعل هذا القول هو الأرجح عندي -إن شاء الله-؛ لأن هذه الفوائد مع ضخامتها، لو تركت عند البنوك الربوية في مثل هذه البلاد الكافرة؛ لتقوى بها اقتصادها، وعاد ضررها على المسلمين، وإذا كان الأمر كذلك على هذا القول، فالواجب عليك - أخي السائل- أن تجتهد في صرف هذا المال -المسؤول عنه- في أولويات أعمال المركز عندكم وأنشطته، ما دامت في خدمة الدعوة إلى الله في بلاد الغربة، من دعوة غير المسلمين، وتأليف قلوبهم، ونشر الكتب والأشرطة التي تشرح العقيدة والأحكام الضرورية، وأنصح المسلمين بألا يأكلوا أو يشربوا مما صرف من هذه الفوائد على الطعام والشراب مما قد يوضع في المركز، وهذا من باب قول الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16], فالله الله في تدبر هذه الآية، على وفق جوابي لسؤالك، وفقنا الله وإياك إلى كل خير.(9)
5- الشيخ عبد الله بن منيع:
سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع -حفظه الله-: ما حكم أخذ الفوائد الربوية من الحساب البنكي الخاص بي، وذلك لصرفه للمركز الإسلامي الموجود في المدينة أو توزيعها على المحتاجين من المسلمين؟ علماً أنه يوجد حساب بنكي بدون فوائد ربوية.
فأجاب: الحمد لله، الفوائد البنكية ربا صريح، وإذا كان للمسلم حساب في بنك ربوي في مثل أمريكا، وليس هناك بنوك إسلامية يمكن فتح حسابات فيها، فهذا مسوغ للإيداع فيها؛ حفظاً للمال من عوارض الإضاعة والتسلط، وليس لغرض أخذ الفائدة، فإذا ظهر في الإيداع فائدة ربوية، فيجب أخذها وصرفها في وجوه البر، تخلُّصاً منها، ومنعاً من أن تصرف إلى جهة غير إسلامية. ولكن لا يجوز الإيداع في البنوك الربوية لغرض الاستثمار الربوي؛ لصرفه في وجوه الخير، حيث قد ينطبق على ذلك قول الشاعر فيمن تزني وتدفع أجرة زناها للأيتام:
أمطعمة الأيتام من كدِّ فرجها *** لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي
والله أعلم.(10)
تنبيه مهم:
يشترط لهذه الفتيا عدم إمكان تمييز الجزء الحرام من المال من الحلال، أو عدم معرفة صاحب المال الحرام، الذي يجوز رد المال إليه، مع كون مالك المال الحرام لا يستطيع أن يستغني عنه، ويفهم هذا جلياً من تمام فتوى ابن تيمية.
حيث أفتى بأن البغي والخمار إذا تابوا وكانوا فقراء، جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كانوا يقدرون على أن يتجروا أو يعملوا صنعة، كالنسج والغزل أعطوا ما يكون لهم رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئاً ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.(11)
الثاني: أن يعرف المالك له الذي يحل له ملكه:
فهنا لابد من إرجاع المال لصاحبه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان، فيدفعه إلى صاحبه وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته، تصدق به عنه.
خلاصة لكيفية التصرف بالمال الحرام:
سئل شيخ الإسلام ابن القيم عن ذلك: فأجاب بقوله: (هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي: (أن من قبض ما ليس له قبضه شرعاً، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه ولا استوفى عوضه، رده عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به ديناً يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك، تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة، كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم)(12).
ولابد هنا من التنويه على أن المال المحرم نوعان:
النوع الأول: المحرم لوصفه:
ويقصد بذلك المال الذي يكون أصله حلال، لكنه قد اتصف بصفة جعلته حراماً، ككونه أخذ بطريق رباً، أو أجرة على فعلٍ محرم كغناءٍ ونحوه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً، وقد تابت، وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟
فأجاب: المال المكسوب إن كانت عيناً أو منفعة، مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد، مثل من يبيع عنباً لمن يتخذه خمراً، أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها، فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله.(13)
النوع الثاني: المحرم لعينه:
ويقصد به ما كان محرماً لذاته، فلا يحل في أي زمان ولا مكان، ومن أمثلتها أجرة الزنا، وقيمة الخمر، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فقال: (وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة، كمهر البغي وثمن الخمر، فهنا لا يقضي له به قبل القبض، ولو أعطاه إياه، لم يحكم برده، فإن هذا معونة لهم على المعاصي، إذا جمع لهم بين العوض والمعوض، ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين.
و أما إذا تصدق به؛ لاعتقاده أنه يحل له أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله؛ لأن الله لا يقبل إلا الطيب، فهذا خبيث، كما قال النبي -صلى الله عليه و سلم-: «مهر البغي خبيث»(14).
2- وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصي عليه، وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة، إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهراً، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث، كما حكم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجاً إليه، فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عيناً كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.
تنبيه: يحرم رد المال الذي أخذ عوضاً على محرم إلى صاحبه:
ترد هاهنا شبهة لابد من الإجابة عليها، مفادها كالآتي:
الشبهة:
أنه إذا جاز صرف هذه الأموال المحرمة إلى وجوه الخير، فصرفها إلى أصحابها الأصليين جائز عند احتياجهم إليها من باب أولى؟
وذلك بأن يقال: الدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز له دفعه، بل حجر عليه الشارع في ذلك التصرف، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك، وسر المسألة أنه محجور عليه شرعاً في هذا الدفع فيجب رده إليه.
الرد على الشبهة:
هذا قياس فاسد؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض، لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه؛ لتعلق حق غيره به،أو حق نفسه المقدمة على غيره.
وأما ما نحن فيه فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، وقد قبض عوضاً محرماً، وأقبض مالا محرماً، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالاً محرماً، والدافع استوفى عوضاً محرماً.
وقضية العدل ترادُّ العوضين، لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائماً بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها وجب رد المال في الصورتين قطعاً، كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض.
فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنـزلة عدمه إذ الممنوع شرعاً، كالممنوع حساً، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟
قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه، وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟
فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره فلا فرق بينهما وهذا واضح بحمد الله
وقد توقف شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله أو الصدقة به في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته، وأخذ عوضها جميعاً منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمراً أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني من صرف القوة التي عمل بها. ثم أورد على نفسه سؤالاً، فقال: فيقال على هذا فينبغي أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها. وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقداً لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة فإذا قبضها وقال الدافع هذا المال: اقضوا لي برده فإني أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل قال: وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد انتهى
وقد نص أحمد في رواية أبى النضر فيمن حمل خمراً أو خنزيراً أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضى للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق: إحداها: إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة. قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضي له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه، وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء، وإن كان محرماً، كإجارة الحجام انتهى فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريق الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة، وهي أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديماً.
الطريقة الثالثة: تخريج هذه المسالة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية: لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل، وهذا على قياس قوله في الخمر: لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها. قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير وقد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها، ولأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرمٍ لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه. والمنصور عندهم: الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق أجرة، ولا يقضى له بها، وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير أو مطلقاً، فأما إذا استأجره لحملها؛ ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء؛ لئلا يتأذى بها، فإن الإجارة تجوز حينئذ؛ لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك، والظاهر: أنه مذهب الشافعي، وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فمذهبه كالرواية الأولى أنه: تصح الإجارة ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقاً لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء، وله أن يحمل شيئاً آخر غيره، كخل وزيت، وهكذا قال: فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة أو ليبيع فيها الخمر. قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء، كان ذكرها وتركها سواء، كما لو اكترى داراً؛ لينام فيها أو ليسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه، وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول: فيما إذا استأجر رجلاً ليحمل خمراً أو ميتة أو خنـزيراً، أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمله بدله عصيراً استحق الأجرة، فهذا التقييد عندهم لغو، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال: لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره. وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها في المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض، وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى داراً ليتخذها مسجداً، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة.
ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن عاصر الخمر ومعتصرها، والعاصر إنما يعصر عصيراً، ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمراً فيعصره له استحق اللعنة.
قالوا: وأيضاً فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه -صلى الله عليه وسلم- بتحريم العينة، وما يترتب عليها من العقوبة.
قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن موسى، يعني أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه»(15). فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضاً، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنباً وعصيراً لمن يتخذه خمراً وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجاناً، بل يقضى له بعوضه، كذلك هنا، المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجاناً، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها، إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها جاز، ثم نحن نحرم الأجرة عليه؛ لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم؛ لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمراً، فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة والجعالة -يعني الإجارة- على حمل الخمر والميتة، لا توصف بالصحة مطلقاً ولا بالفساد مطلقاً، بل يقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجر، ولهذا في الشريعة نظائر. قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرمٍ النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه. قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية، قد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئاً، ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم، كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك، بخلاف من سلم إليهم عملاً لا قيمة له بحال، يعني كالزانية والمغني والنائحة، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك وبينّا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله. والله الموفق للصواب.
إعداد وترتيب: فيصل الرازقي.
راجعه وخرج أحاديثه: عادل البعداني
وعلي بن عبد الرحمن دبيس.
______________________
(1) أخرجه الألباني 2/ 263، برقم 3332، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3/ 196.
(2) مرقاة المفاتيح 10/ 297.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 4/ 561.
(4) تفسير القرطبي 3/ 366.
(5) مجموع الفتاوى 29/ 308.
(6) مجموع الفتاوى 29/ 322.
(7) أخرجه مسلم 3/ 1218، برقم 1598.
(8) أخرجه مسلم، 2/ 703، برقم1015.
(9) أنظر: موقع: الإسلام اليوم.
(10) أنظر: موقع: الإسلام اليوم.
(11) مجموع الفتاوى 29/ 308.
(12) زاد المعاد 5/ 690.
(13) مجموع الفتاوى 29/ 309.
(14) أخرجه مسلم 3/ 1199، برقم 1568.
(15) سنن أبى داوود 2/ 350، برقم 3674، وصححه الألباني في الإرواء 1/ 474، برقم 23
المصدر