Mengkafirkan Sesama Muslim Tawasul pada Nabi dan Pembagian Tauhid
Hukum Mengkafirkan Sesama Muslim Tawasul pada Nabi dan Pembagian Tauhid menjadi uluhiyah dan rububiyah
Hukum Mengkafirkan Sesama Muslim Tawasul pada Nabi dan Pembagian Tauhid menjadi uluhiyah dan rububiyah
الـجـــواب : فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد
يجب على المسلم أن يَحذَر من المجازفة في التكفير؛ حتى لا يقع تحت طائلة الوعيد المذكور في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَرمِي رَجُلٌ رَجُلاً بالفِسقِ ولا يَرمِيهِ بالكُفرِ إلاّ ارتَدَّت عليه إن لم يكن صاحِبُهُ كذلك»، رواه البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقولِه عليه الصلاة والسلام: «إذا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخاهُ فقد باءَ بها أَحَدُهما»، رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعنُ المُؤمِنِ كقَتلِهِ، ومَن رَمى مُؤمِنًا بكُفرٍ فهو كقَتلِهِ»، رواه البخاري من حديث ثابت بن الضحَّاك رضي الله عنه.
وتقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية هو من التقسيمات المُحدَثات التي لم تَرِد عن السلف الصالح، وأول من أحدثهـا -على ما هو المشهور- هو الشيخ ابن تيمية رحمه الله، ثم أخذه عنه مَن تكلم به بعد ذلك، وحاصل قوله في ذلك: أن الربوبية هي توحيد الله بأفعاله، والألوهية هي توحيد الله بأفعال العباد، وأنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، أي: إن أحدهما يتضمن الآخر عند الانفراد، ويختص بمعناه عند الاقتران؛ فالألوهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، وهذا الكلام إلى هذا القدر لا إشكال فيه، إلا أنه تجاوزه إلى الزعم بأن هذا التوحيد وحده لا يكفي في الإيمان، وأن المشركين مُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وأن كثيرًا من طوائف الأمة -من المتكلمين وغيرهم- قد اقتصروا عليه وأهملوا توحيد الألوهية.
والقول بأن توحيد الربوبية لا يكفي وحده في الإيمان هو قول مبتَدَعٌ مخالف لإجماع المسلمين قبل ابن تيمية، بل ومخالف لكلامه نفسِه من أن توحيد الألوهية متضمِّنٌ لتوحيد الربوبية، وأن توحيد الربوبية مستلزِمٌ لتوحيد الألوهية؛ فإن بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فإذا لم يكن المشركون مُقِرِّين بتوحيد الألوهية فلا يصح الزعم بعد ذلك أنهم كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية؛ ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، وإذا صح إقرار المسلمين بتوحيد الربوبية فلا يجوز أن يُدَّعى أنهم لا يؤمنون بتوحيد الألوهية؛ لأن الفرض أنهما متلازمان، فكيف يثبت الملزوم مع انتفاء اللازم! وقد تصدّى أهل العلم لرد هذا القول وبينوا فساده، وأنه قول باطل لا دليل عليه، وأن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما تكفير من توسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء فهو على الحقيقة تكفير للسواد الأعظم من علماء الأمة؛ لأن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم مما أجمعت عليه مذاهب الأئمة الأربعة المتبوعين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالتوسل به في حديث الأعمى وغيره من الأحاديث الصحيحة.
وللشوكاني في كتابه "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" كلام نفيس عن جواز التوسل ننقله على طوله لِمَا فيه من تجلية الأمر في هذه المسألة، يقول رحمه الله: "وأما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صح الحديث فيه اهـ. ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه وابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي فيّ» وقال: «فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» فرد الله بصره.
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لَمّا قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، وهو في صحيح البخاري وغيره، فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته في الاستسقاء، ثم توسل بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في مثل هذا شافعًا وداعيًا لهم.
والقول الثاني: أن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًّا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في التوسل بالعباس رضي الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:
الأول: ما عرّفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل: (اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني) فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب -كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه- لم تحصل الإجابة لهم، ولا سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ ونحو قوله تعالى: ﴿فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾ ونحو قوله تعالى: ﴿له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء﴾ ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النـزاع بما هو أجنبي عنه؛ فإن قولهم: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده، بل علم أن له مزية عند الله -بحمله العلم- فتوسل به لذلك، وكذلك قوله: ﴿فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾؛ فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول بالله وبفلان، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدعُ إلا الله، فإنما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: ﴿والذين يدعون من دونه﴾ الآية ؛ فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه، وإذا عرفت هذا لم يَخْفَ عليك دفعُ ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النـزاع خروجًا زائدًا على ما ذكرناه؛ كاستدلالهم بقوله تعالى: ﴿وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله﴾ فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد -سواء كان نبيًّا أو غير نبي- فهو في ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ وقوله تعالى: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا﴾ فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا فكيف يملك لغيره؟ وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له: سل تعطه واشفع تشفع، وقيل ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ "يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئًا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئًا"؛ فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله تعالى نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته -فضلاً عن غيرهم- شيئاً من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله؛ فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سبباً للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين" انتهى كلام الشوكاني.
وكذلك الحال في التبرك بزيارة مقامات أهل البيت الكرام وغيرهم من الصالحين؛ فإن زيارة آل بيت النبوة من أقرب القربات؛ وأَولى القبور بالزيارة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبور آل البيت النبوي الكريم؛ لأن في زيارتهم ومودتهم برًّا وصلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن زيارة الإنسان لقبورهم آكد استحبابًا وأكثر ثوابًا من زيارته لقبور أقربائه، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «والذي نَفسِي بيَدِهِ لَقَرابةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَحَبُّ إلَيّ أَن أَصِلَ مِن قَرابَتِي»، فتكفير فاعل ذلك مخالف لإجماع المسلمين، بل قائل ذلك أَولى بالكفر مِمن كفّره.
وتَسَتُّرُ تيارات التكفير بهذا الأقوال الفاسدة واتخاذها ذريعة لاتهام المسلمين بالشرك والكفر مع نسبة كل هذه الأفهام المغلوطة إلى الشيخ ابن تيمية رحمه الله .. هو من التلبيس والإرجاف الذي ينتهجه أدعياء هذا الفكر الخارجي؛ ليتطاولوا به على حرمات المسلمين، منغمسين بذلك في أوحال التكفير والتفسيق والتبديع لجمهور الأمة ومشاهير علمائها وصالحيها بل وسوادها الأعظم، ومتهمين سلف الأمة وخَلَفها بالشرك والكفر إلا من كان على مثل باطلهم ومشربهم الفاسد.
وهذا هو عين مذهب الخوارج الذي حذرتنا النصوص الشرعية من الوقوع في باطله:
فروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تعليقًا –ووصله ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" بسند صحيح– أنه كان يَراهم شِرارَ خَلقِ اللَّهِ، وكان يقول: إنّهم انطَلَقُوا إلى آياتٍ نَزَلَت في الكُفّارِ فجَعَلُوها على المُؤمِنِينَ.
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يَأتِي في آخِرِ الزَّمانِ قَومٌ حُدَثاءُ الأَسنانِ سُفَهاءُ الأَحلامِ، يَقُولُونَ مِن خَيرِ قَولِ البَرِيّةِ، يَمرُقُونَ مِن الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ مِن الرَّمِيّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهم حَناجِرَهم، فأينَما لَقِيتُمُوهم فاقتُلُوهم؛ فإنّ قَتلَهم أَجرٌ لِمَن قَتَلَهم يَومَ القِيامةِ»، متفق عليه.
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الخَوارِجُ هم كِلابُ النّارِ»، رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما.
ونحن نحذِّر المسلمين من السير خلف هذه الأفكار التكفيرية الضالّة التي يطعن بها خوارجُ العصر في عقائد المسلمين، ونُهِيب بكل مسلم غيور على دينه أن يَحذَر ويُحَذِّر من تكفير إخوانه المسلمين؛ فتكفير المسلم كقتله، وعلى أهل العلم أن يبينوا لهؤلاء الأغرار فساد معتقداتهم حتى يرجعوا إلى الحق الذي يُرضِي اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وآله وسلم.والله سبحانه وتعالى أعلم
Courtesy
الـجـــواب : فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد
يجب على المسلم أن يَحذَر من المجازفة في التكفير؛ حتى لا يقع تحت طائلة الوعيد المذكور في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَرمِي رَجُلٌ رَجُلاً بالفِسقِ ولا يَرمِيهِ بالكُفرِ إلاّ ارتَدَّت عليه إن لم يكن صاحِبُهُ كذلك»، رواه البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقولِه عليه الصلاة والسلام: «إذا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخاهُ فقد باءَ بها أَحَدُهما»، رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعنُ المُؤمِنِ كقَتلِهِ، ومَن رَمى مُؤمِنًا بكُفرٍ فهو كقَتلِهِ»، رواه البخاري من حديث ثابت بن الضحَّاك رضي الله عنه.
وتقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية هو من التقسيمات المُحدَثات التي لم تَرِد عن السلف الصالح، وأول من أحدثهـا -على ما هو المشهور- هو الشيخ ابن تيمية رحمه الله، ثم أخذه عنه مَن تكلم به بعد ذلك، وحاصل قوله في ذلك: أن الربوبية هي توحيد الله بأفعاله، والألوهية هي توحيد الله بأفعال العباد، وأنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، أي: إن أحدهما يتضمن الآخر عند الانفراد، ويختص بمعناه عند الاقتران؛ فالألوهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، وهذا الكلام إلى هذا القدر لا إشكال فيه، إلا أنه تجاوزه إلى الزعم بأن هذا التوحيد وحده لا يكفي في الإيمان، وأن المشركين مُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وأن كثيرًا من طوائف الأمة -من المتكلمين وغيرهم- قد اقتصروا عليه وأهملوا توحيد الألوهية.
والقول بأن توحيد الربوبية لا يكفي وحده في الإيمان هو قول مبتَدَعٌ مخالف لإجماع المسلمين قبل ابن تيمية، بل ومخالف لكلامه نفسِه من أن توحيد الألوهية متضمِّنٌ لتوحيد الربوبية، وأن توحيد الربوبية مستلزِمٌ لتوحيد الألوهية؛ فإن بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فإذا لم يكن المشركون مُقِرِّين بتوحيد الألوهية فلا يصح الزعم بعد ذلك أنهم كانوا مُقِرِّين بتوحيد الربوبية؛ ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، وإذا صح إقرار المسلمين بتوحيد الربوبية فلا يجوز أن يُدَّعى أنهم لا يؤمنون بتوحيد الألوهية؛ لأن الفرض أنهما متلازمان، فكيف يثبت الملزوم مع انتفاء اللازم! وقد تصدّى أهل العلم لرد هذا القول وبينوا فساده، وأنه قول باطل لا دليل عليه، وأن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما تكفير من توسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء فهو على الحقيقة تكفير للسواد الأعظم من علماء الأمة؛ لأن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم مما أجمعت عليه مذاهب الأئمة الأربعة المتبوعين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالتوسل به في حديث الأعمى وغيره من الأحاديث الصحيحة.
وللشوكاني في كتابه "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" كلام نفيس عن جواز التوسل ننقله على طوله لِمَا فيه من تجلية الأمر في هذه المسألة، يقول رحمه الله: "وأما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صح الحديث فيه اهـ. ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه وابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي فيّ» وقال: «فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» فرد الله بصره.
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لَمّا قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، وهو في صحيح البخاري وغيره، فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته في الاستسقاء، ثم توسل بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في مثل هذا شافعًا وداعيًا لهم.
والقول الثاني: أن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًّا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في التوسل بالعباس رضي الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:
الأول: ما عرّفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل: (اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني) فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب -كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه- لم تحصل الإجابة لهم، ولا سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ ونحو قوله تعالى: ﴿فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾ ونحو قوله تعالى: ﴿له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء﴾ ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النـزاع بما هو أجنبي عنه؛ فإن قولهم: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يعبده، بل علم أن له مزية عند الله -بحمله العلم- فتوسل به لذلك، وكذلك قوله: ﴿فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾؛ فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول بالله وبفلان، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدعُ إلا الله، فإنما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: ﴿والذين يدعون من دونه﴾ الآية ؛ فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه، وإذا عرفت هذا لم يَخْفَ عليك دفعُ ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النـزاع خروجًا زائدًا على ما ذكرناه؛ كاستدلالهم بقوله تعالى: ﴿وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله﴾ فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد -سواء كان نبيًّا أو غير نبي- فهو في ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ وقوله تعالى: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا﴾ فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا فكيف يملك لغيره؟ وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له: سل تعطه واشفع تشفع، وقيل ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ "يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئًا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئًا"؛ فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله تعالى نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته -فضلاً عن غيرهم- شيئاً من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله؛ فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سبباً للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين" انتهى كلام الشوكاني.
وكذلك الحال في التبرك بزيارة مقامات أهل البيت الكرام وغيرهم من الصالحين؛ فإن زيارة آل بيت النبوة من أقرب القربات؛ وأَولى القبور بالزيارة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبور آل البيت النبوي الكريم؛ لأن في زيارتهم ومودتهم برًّا وصلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن زيارة الإنسان لقبورهم آكد استحبابًا وأكثر ثوابًا من زيارته لقبور أقربائه، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «والذي نَفسِي بيَدِهِ لَقَرابةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَحَبُّ إلَيّ أَن أَصِلَ مِن قَرابَتِي»، فتكفير فاعل ذلك مخالف لإجماع المسلمين، بل قائل ذلك أَولى بالكفر مِمن كفّره.
وتَسَتُّرُ تيارات التكفير بهذا الأقوال الفاسدة واتخاذها ذريعة لاتهام المسلمين بالشرك والكفر مع نسبة كل هذه الأفهام المغلوطة إلى الشيخ ابن تيمية رحمه الله .. هو من التلبيس والإرجاف الذي ينتهجه أدعياء هذا الفكر الخارجي؛ ليتطاولوا به على حرمات المسلمين، منغمسين بذلك في أوحال التكفير والتفسيق والتبديع لجمهور الأمة ومشاهير علمائها وصالحيها بل وسوادها الأعظم، ومتهمين سلف الأمة وخَلَفها بالشرك والكفر إلا من كان على مثل باطلهم ومشربهم الفاسد.
وهذا هو عين مذهب الخوارج الذي حذرتنا النصوص الشرعية من الوقوع في باطله:
فروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تعليقًا –ووصله ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" بسند صحيح– أنه كان يَراهم شِرارَ خَلقِ اللَّهِ، وكان يقول: إنّهم انطَلَقُوا إلى آياتٍ نَزَلَت في الكُفّارِ فجَعَلُوها على المُؤمِنِينَ.
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يَأتِي في آخِرِ الزَّمانِ قَومٌ حُدَثاءُ الأَسنانِ سُفَهاءُ الأَحلامِ، يَقُولُونَ مِن خَيرِ قَولِ البَرِيّةِ، يَمرُقُونَ مِن الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ مِن الرَّمِيّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهم حَناجِرَهم، فأينَما لَقِيتُمُوهم فاقتُلُوهم؛ فإنّ قَتلَهم أَجرٌ لِمَن قَتَلَهم يَومَ القِيامةِ»، متفق عليه.
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الخَوارِجُ هم كِلابُ النّارِ»، رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما.
ونحن نحذِّر المسلمين من السير خلف هذه الأفكار التكفيرية الضالّة التي يطعن بها خوارجُ العصر في عقائد المسلمين، ونُهِيب بكل مسلم غيور على دينه أن يَحذَر ويُحَذِّر من تكفير إخوانه المسلمين؛ فتكفير المسلم كقتله، وعلى أهل العلم أن يبينوا لهؤلاء الأغرار فساد معتقداتهم حتى يرجعوا إلى الحق الذي يُرضِي اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وآله وسلم.والله سبحانه وتعالى أعلم