Hukum Memakai Senjata Pemusnah Penghancur Massal dalam Perang
Hukum Memakai Senjata Pemusnah Penghancur Massal dalam Perang
Hukum Memakai Senjata Pemusnah Penghancur Massal dalam Perang
الـجـــواب : فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد
أسلحة الدمار الشامل تُطلَق في الاصطلاح العسكري ويراد بها صِنفٌ مِن الأسلحة غير التقليدية شديدة الفتك، تُستَخدَم فتسبب دمارًا هائلًا في المنطقة المصابة، سواء في ذلك الكائنات الحية من البشر والحيوانات والبيئة المحيطة أيضًا، وتنقسم هذه الأسلحة إلى ثلاثة أصناف: أسلحة ذرية: كالقنبلة النووية والقنبلة الهيدروجينية والقنبلة النيترونية، وهذا النوع مُصَمَّم بحيث ينشر مواد إشعاعية تدمر البشر والمنشآت وتلوث مُدُنًا بأكملها لمدد زمنية طويلة، وقد يقتصر بعضها على تدمير البشر فقط دون المنشآت.
وأسلحة كيماوية: كالغازات الحربية ذات الاستعمالات المتعددة والمواد الحارقة، ويكون لها تأثير بالغ الضرر قد يصل إلى الموت على أي كائن حي يتعرض لها، كما تصيب أيضًا الزراعات والنباتات، وغالبًا ما تكون هذه المواد السامة في حالة غازية أو سائلة سريعة التبخر ونادرًا ما تكون صلبة.
وأسلحة بيولوجية: ويقصد بها الجراثيم والفيروسات التي تُستَخدَم لنشر الأمراض الوبائية الخطيرة في صفوف العدو، وإنزال الخسائر بموارده الحيوانية أو الزراعية.
واتخاذ الدول الإسلامية مثل هذه الأسلحة على سبيل ردع المعتدين عنها مطلوب شرعي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، قال العلامة الألوسي في تفسيره: "أي: مِن كل ما يُتَقَوَّى به في الحرب كائنًا ما كان". (اهـ 10/ 24 ط: دار إحياء التراث العربي).
وقد أمر الله تعالى -في الآية سالفة الذكر- بردع الأعداء حتى لا تسول لهم أنفسهم الاعتداء على المسلمين، والردع كما هو مبدأ شرعي يظهر في الحدود والتعازير فهو أيضًا مبدأ سياسي معتبر تعتمده الدول في سياساتها الدفاعية كما تقرر في علم الإستراتيجيات العسكرية، فاتخاذ هذه الأسلحة وتحصيلها من مكملات ذلك المطلوب، ومُكَمِّل المطلوب مطلوبٌ، والإذن في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده، ولا يخفى ما في ذلك من فائدة خلق التوازن الإستراتيجي والعسكري المتبادل بين الدول،إذ يشكل ذلك عاملَ إثناءٍ للدولة التي قد تسول لها نفسها أن تُقدِم على عمل عدائي ضد بلد مسلم، مما يجنب في النهاية فرضية الدخول في حرب غير مرادة أصلًا.
هذا من حيث تحصيل هذه الأسلحة واتخاذها على سبيل التخويف وردع المعتدين، وفرق بين الاتخاذ المقصود به الردع، وبين المبادأة بالاستخدام، والصورة المسؤول عنها فرضها البدء بالاستخدام، وأن هذا الاستخدام مبناه على بعض الاجتهادات الفردية أو الرؤى التي تخص بعض الطوائف والفرق والجماعات، وهذا ممنوع شرعًا، والقول بجوازه ونسبته إلى الشريعة وإلى علمائها كذبٌ وزورٌ وافتراءٌ على الشرع والدين، ويدل على هذا أمور:
أولًا: أن الأصل في الحرب ألا تكون إلا تحت راية ولي الأمر المسلم، وأن شأنها موكول إلى اجتهاده، وأنه يجب على الرعية طاعتُه في ذلك، وما وُكِّل ذلك إليه إلا لمعرفته واستشرافه على الأمور الظاهرة والخفية وإدراكه لمآلات الأفعال ونتائجها ومصالح رعيته، ولهذا كان إعلان الحرب وعقد الاتفاقات العامة أو الدولية مُوكلًا إليه بمجرد تنصيبه، وهو بدوره لا يصدر قرارًا بمجرد الهوى والتشهي بل لا يفعل إلا بعد مراجعة أهل الاختصاص في كل مجال له علاقة بقراره من الخبراء الفنيين والعسكريين والمستشارين السياسيين الذين يُعَدُّون في النهاية مشاركين في صنع القرار الذي لا يمكن أن يستقل ولي الأمر به دون مشاورتهم.
واستقلال فرد أو أفراد من عموم المسلمين بتقرير استعمال مثل هذه الأسلحة ليس افتئاتًا على ولي الأمر فقط، بل هو افتئات على الأمة نفسها؛ إذ إن هؤلاء قد أعطوا أنفسهم حق اتخاذ قرارات تتعلق بمصير الأمة ككل دون أن يرجعوا إليها وإلى أهل الحَل والعقد فيها، وذلك في أمور تعرض البلاد والعباد إلى أخطار داهمة.
قال العلامة البهوتي في شرح منتهى الإرادات: "ويَحرُم غزو بلا إذن الأمير؛ لرجوع أمر الحرب إليه، لعلمه بكثرة العدو وقلته ومكامنه وكيده "إلا أن يفاجئهم عدو" كفار "يخافون كَلَبه" بفتح اللام أي: شره وأذاه، فيجوز قتالهم بلا إذنه؛ لتعين المصلحة فيه". (اهـ 1/ 636، ط: عالم الكتب).
ثانيًا: ما في ذلك من خرق للاتفاقات والمواثيق والعهود الدولية التي رضيتها الدول الإسلامية وانضمت إليها وأقرتها بمحض إرادتها وباختيارها؛ توافقًا مع المجتمع الدولي لتحقيق الأمن والسلم الدوليين بقدر التزام الدول الموقعة عليها بها، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، والعقود جمع عَقد، والعقد يطلق على كل التزام واقع بين جانبين في فعل ما، قال شيخ الإسلام التونسي العلامة ابن عاشور معلقًا على هذه الآية في تفسيره: "التعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربّهم، وهو الامتثال لِشريعته... ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- المؤمنين ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا... وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين... ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم". اهـ. (التحرير والتنوير 6/ 74، ط: الدار التونسية للنشر).
وروى الترمذي عن عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحلَّ حَرَامًا».
قال الإمام الجصاص: "وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يَشرُط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة تخصصه". اهـ. (أحكام القرآن 2/ 418، ط: دار الفكر).
وروى البخاري عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ»، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ» أي: عهدهم. وقوله: «يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» أي: يتولى ذمتهم أقلهم عددًا، فإذا أعطى أحد المسلمين عهدًا لم يكن لأحد نقضه، فما بالنا بولي الأمر، وقوله: «مَنْ أَخْفَرَ» أي: نقض العهد، وقوله: «صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» أي: لا فرضًا ولا نفلًا، والمعنى: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله.
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، وروى البيهقي عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إِذَا أَمَّنَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا».
ومِن ثَمّ فإن كل أطراف تلك العهود والمواثيق الدولية هم في حالة سلمٍ وتركٍ للقتال بموجب ما اتفقوا عليه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].
ثالثًا: ما يتضمنه هذا الفعل من مباغتة وقتل للغافلين، وقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لَا يَفْتِكُ الْمُؤْمِنُ، الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ».
قال ابن الأثير: "الْفَتْك أَنْ يَأْتِي الرَّجُل صَاحِبه وهو غَارٌّ غَافِلٌ فَيَشُدّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ". اهـ. (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 775، ط: المكتبة العلمية ببيروت).
ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ» هو خبر بمعنى النهي؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، أو هو نهي، ولما وقع خبيب الأنصاري -رضي الله عنه- أسيرًا لدى المشركين ثم بيع بمكة فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو من قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، وفي يوم استعار خبيب موسى من بنت الحارث ليستحد بها، فأعارته فأخذ ابنًا لها وهي غافلة فلما جاءته وجدته مُجْلِسَهُ على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة، فقال لها خبيب: "تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك"، قالت بنت الحارث: "والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب".
فهذا رجل مسلم أسير لدى أعدائه الذين يدبرون لقتله وهو على شفير الموت، ورغم ذلك عندما تحين له فرصة يمكنه أن يدمي قلوبهم فيها بقتل ابنهم يعف عن ذلك؛ لأن خلق المسلم لا يتضمن الخداع ومباغتة الغافلين.
رابعًا: ما يتضمنه هذا الفعل من قتل وإذاية للنساء والصبيان، وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةَ وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ»، وفي رواية أخرى لهما: «فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». قال الإمام النووي: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون". اهـ. (شرح مسلم 12/ 48، ط: دار إحياء التراث العربي).
خامسًا: ما يستلزمه هذا الفعل من قتل وإذاية للمسلمين الموجودين في هذه البلاد من ساكنيها الأصليين أو ممن وردوا إليها، وقد عظَّم الشرع الشريف دم المسلم ورهّب ترهيبًا شديدًا من إراقته أو المساس به بلا حق؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]، وقال سبحانه: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
وروى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِم»، وروى ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا».
وجريمة قتل المسلم عمدًا وعدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبة القاتل خلاف بين الصحابة ومن بعدهم.
سادسًا: ما سيجره هذا الفعل الأخرق من ويلات ومصائب على المسلمين جميعًا بل والدنيا ككل؛ لأن الدولة المعتدَى عليها قد تقابل هذا التصرف بتصرف مماثل أو أشد نكاية، كما أن الآثار المدمرة الناجمة عن بعض هذه الأسلحة قد تتعدى مجرد البقعة المصابة وتجرفها الرياح إلى بلاد أخرى مجاورة لا جريرة لها.
فمفاسد هذا الفعل العاجلة والآجلة أعظم بكثير من مصالحه إن كان ثم مصلحة فيه أصلًا، ومن القواعد الشرعية العظيمة أن دفع المفسدة واجب، وأنه مقدم على جلب المصلحة.
سابعًا: ما يترتب على استعمال بعض هذه الأسلحة من إتلاف للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلَف ليس مملوكًا للمتلِف بل هو مملوك لغيره كما هو الحال هنا، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى.
ثامنًا: استعمال هذه الأسلحة في بعض صوره يلزمه أن يدخل الفاعل إلى البلاد المستهدفة، وذلك بعد استيفائه الإجراءات الرسمية المطلوبة منه للدخول، وموافقة هذه البلاد على دخول شخص ما إلى بلادها متضمنة أنها توافق على دخوله بشرط عدم الفساد فيها، وهو وإن لم يذكر لفظًا إلا أنه معلوم في المعنى، وقد نص الفقهاء على نحو هذا؛ قال الإمام الخِرَقي في مختصره: "من دخل إلى أرض العدو بأمان، لم يخنهم في مالهم"، قال ابن قدامة شارحًا عبارته: "أما خيانتهم فمحرمة; لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك مَن جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضًا لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحلله خيانتهم؛ لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر". اهـ. (المغني 9/ 237، ط: دار إحياء التراث العربي).
وأما النصوص الشرعية والفقهية التي جُعِلَت تكأة لترويج هذه الفكرة الآثمة فهي نصوص منتزعة من سياقاتها مختلفة في (مناطها)؛ فالاحتجاج بها نوع من الشغب؛ حيث إن فيه إهدارًا للفروق المعتبرة بين الأحوال المختلفة؛ كالفرق بين حالة الحرب وحالة السلم، وأن لحالة الحرب أحكامًا خاصة بها تختلف عن حالة السلم التي تعصم فيها الدماء والأموال والأعراض، وهذا فرق مؤثر لا يستقيم معه إلحاق استعمال هذه الأسلحة بما ورد في كتب الفقه من جواز تبييت العدو وجواز رمي الترس وغيرها من المسائل الواردة في الفقه الإسلامي؛ فقياسها عليها محض خطأ، وإن كانت هذه المسائل المنقولة مسائل صحيحة في نفسها وفي محلها الذي قصده الفقهاء منها وفي حكمها الذي نزّلوه عليها. ولكن الخطأ كل الخطأ في نقل هذه الأحكام الصحيحة من محلها وواقعها إلى محل مغاير وواقع مختلف صورةً وتكييفًا وحكمًا. كما أنه لا يصح قياس استخدام هذه الأسلحة على قتال الصائل وقتله؛ إذ من المعلوم أن هناك فروقًا بين أحكام دفع الصائل وأحكام باب الجهاد، منها: أن الصائل إنما يدفع بالأخف فالأخف، فلو دُفِعَ بالكلام حرم الضرب، ولو أمكن دفعه باليد حرم دفعه بالسيف، وهكذا، وهو ما لا يتسق مع إجازة استعمال أسلحة الدمار الشامل على الوجه المذكور.
وما يُستَدَل به في هذا المقام من الأحاديث الواردة في جواز تبييت المشركين أو جواز استخدام المنجنيق أو جواز التحريق، وقياس استخدام أسلحة الدمار الشامل على هذه الصور هو في الحقيقة قياس باطل؛ لظهور الفرق الشاسع والواضح بين الأمرين من أن هذه الأحاديث واردة في حالة الحرب، وفرق بين حكم حالة الحرب وحكم غيرها، كما أن هناك فارقًا كبيرًا من حيث الأثر بين رمي الأحجار بالمنجنيق وبين رمي أسلحة الدمار الشامل كما لا يخفى؛ لأن أثر الرمي بالمنجنيق قاصر بالنسبة إلى أسلحة الدمار المذكورة، كما أن هذه الوقائع الواردة في السنة النبوية إنما تمت تحت راية ولي الأمر، وهو فارق رئيس وجوهري بينها وبين ما تستلزمه هذه الدعوى من الخروج على ولاة الأمر، وإعطاء آحاد الناس حق إعلان الحروب من عند أنفسهم افتئاتًا على الأمة وعلى ولاة أمورها تحت مسمى الجهاد. كما أن هذه الأحاديث -بفرض صحتها- إنما هي وقائع أعيان لا عموم لها، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الأصل عدم جواز التبييت والتحريق والتخريب؛ اعتمادًا على النصوص القولية في الباب والتي لها صفة العموم.
على أنا نرى أن الصواب هو منع استعمال أنواع أسلحة الدمار الشامل التي تسببت في حرائق عامة؛ اتباعًا لمقتضى النهي القولي عن التحريق بالنار بعد أن أمر به -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم نهى عنه قبل أن يقع، رغم أن الحالة كانت حالة حرب وقال فيما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: «إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ»، فنهى -صلى الله عليه وآله وسلم- عن التحريق، ومعلوم أن كثيرًا من أسلحة الدمار الشامل تسبب حرائق هائلة، فالصواب منع استخدامها مطلقًا ولو في الحروب للنهي العام عن التحريق.
وأما إلحاق هذه المسألة بمسألة تبييت العدو فهو نوع من المغالطة؛ لأن محل تجويز الفقهاء لمسألة تبييت العدو مقيد بقيود منها: أن يكون ثَمَّ حالة الحرب، وأن يكون العدو المقصود تبييته عدوًّا يجوز قتاله، خلافًا لمن بيننا وبينهم اتفاقات ومواثيق لها حكم الهدنة؛ فلا يجوز تبييت من بيننا وبينه هدنة أو ذمة أو ما جرى مجراهما من المواثيق والعهود والاتفاقات الدولية؛ إذ صار كل طرف من أطرافها موضع تأمين من سائر الأطراف الأخرى على النفوس والأموال والأعراض، وإذا كان هؤلاء لا يجوز معهم التبييت ونحوه فلأن يكون استخدام هذه الأسلحة الفتاكة في حقهم حرامًا من باب أولى وأحرى، أما مسألة التترس ونحوها فإنها لا تجوز إلا في حالة الحرب وبشروط وصور محددة تناولها الفقهاء بالتفصيل. راجع: (البحر الرائق 5/ 80)، (حاشية ابن عابدين 3/ 223)، (روضة الطالبين 10/ 239)، (مغني المحتاج 4/ 223)، (المغني لابن قدامة 8/ 449، 10/ 386).
وبناء على ذلك: فهذه الدعوى من الدعاوى الباطلة، والقول بها والترويج لها من عظيم الإرجاف والإجرام والإفساد في الأرض الذي نهى الله تعالى عنه، وتوعد فاعله بأشد العقاب، قال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 60]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85]، وقال عز من قائل: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22- 23]. والله سبحانه وتعالى أعلم.
Courtesy
الـجـــواب : فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد
أسلحة الدمار الشامل تُطلَق في الاصطلاح العسكري ويراد بها صِنفٌ مِن الأسلحة غير التقليدية شديدة الفتك، تُستَخدَم فتسبب دمارًا هائلًا في المنطقة المصابة، سواء في ذلك الكائنات الحية من البشر والحيوانات والبيئة المحيطة أيضًا، وتنقسم هذه الأسلحة إلى ثلاثة أصناف: أسلحة ذرية: كالقنبلة النووية والقنبلة الهيدروجينية والقنبلة النيترونية، وهذا النوع مُصَمَّم بحيث ينشر مواد إشعاعية تدمر البشر والمنشآت وتلوث مُدُنًا بأكملها لمدد زمنية طويلة، وقد يقتصر بعضها على تدمير البشر فقط دون المنشآت.
وأسلحة كيماوية: كالغازات الحربية ذات الاستعمالات المتعددة والمواد الحارقة، ويكون لها تأثير بالغ الضرر قد يصل إلى الموت على أي كائن حي يتعرض لها، كما تصيب أيضًا الزراعات والنباتات، وغالبًا ما تكون هذه المواد السامة في حالة غازية أو سائلة سريعة التبخر ونادرًا ما تكون صلبة.
وأسلحة بيولوجية: ويقصد بها الجراثيم والفيروسات التي تُستَخدَم لنشر الأمراض الوبائية الخطيرة في صفوف العدو، وإنزال الخسائر بموارده الحيوانية أو الزراعية.
واتخاذ الدول الإسلامية مثل هذه الأسلحة على سبيل ردع المعتدين عنها مطلوب شرعي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، قال العلامة الألوسي في تفسيره: "أي: مِن كل ما يُتَقَوَّى به في الحرب كائنًا ما كان". (اهـ 10/ 24 ط: دار إحياء التراث العربي).
وقد أمر الله تعالى -في الآية سالفة الذكر- بردع الأعداء حتى لا تسول لهم أنفسهم الاعتداء على المسلمين، والردع كما هو مبدأ شرعي يظهر في الحدود والتعازير فهو أيضًا مبدأ سياسي معتبر تعتمده الدول في سياساتها الدفاعية كما تقرر في علم الإستراتيجيات العسكرية، فاتخاذ هذه الأسلحة وتحصيلها من مكملات ذلك المطلوب، ومُكَمِّل المطلوب مطلوبٌ، والإذن في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده، ولا يخفى ما في ذلك من فائدة خلق التوازن الإستراتيجي والعسكري المتبادل بين الدول،إذ يشكل ذلك عاملَ إثناءٍ للدولة التي قد تسول لها نفسها أن تُقدِم على عمل عدائي ضد بلد مسلم، مما يجنب في النهاية فرضية الدخول في حرب غير مرادة أصلًا.
هذا من حيث تحصيل هذه الأسلحة واتخاذها على سبيل التخويف وردع المعتدين، وفرق بين الاتخاذ المقصود به الردع، وبين المبادأة بالاستخدام، والصورة المسؤول عنها فرضها البدء بالاستخدام، وأن هذا الاستخدام مبناه على بعض الاجتهادات الفردية أو الرؤى التي تخص بعض الطوائف والفرق والجماعات، وهذا ممنوع شرعًا، والقول بجوازه ونسبته إلى الشريعة وإلى علمائها كذبٌ وزورٌ وافتراءٌ على الشرع والدين، ويدل على هذا أمور:
أولًا: أن الأصل في الحرب ألا تكون إلا تحت راية ولي الأمر المسلم، وأن شأنها موكول إلى اجتهاده، وأنه يجب على الرعية طاعتُه في ذلك، وما وُكِّل ذلك إليه إلا لمعرفته واستشرافه على الأمور الظاهرة والخفية وإدراكه لمآلات الأفعال ونتائجها ومصالح رعيته، ولهذا كان إعلان الحرب وعقد الاتفاقات العامة أو الدولية مُوكلًا إليه بمجرد تنصيبه، وهو بدوره لا يصدر قرارًا بمجرد الهوى والتشهي بل لا يفعل إلا بعد مراجعة أهل الاختصاص في كل مجال له علاقة بقراره من الخبراء الفنيين والعسكريين والمستشارين السياسيين الذين يُعَدُّون في النهاية مشاركين في صنع القرار الذي لا يمكن أن يستقل ولي الأمر به دون مشاورتهم.
واستقلال فرد أو أفراد من عموم المسلمين بتقرير استعمال مثل هذه الأسلحة ليس افتئاتًا على ولي الأمر فقط، بل هو افتئات على الأمة نفسها؛ إذ إن هؤلاء قد أعطوا أنفسهم حق اتخاذ قرارات تتعلق بمصير الأمة ككل دون أن يرجعوا إليها وإلى أهل الحَل والعقد فيها، وذلك في أمور تعرض البلاد والعباد إلى أخطار داهمة.
قال العلامة البهوتي في شرح منتهى الإرادات: "ويَحرُم غزو بلا إذن الأمير؛ لرجوع أمر الحرب إليه، لعلمه بكثرة العدو وقلته ومكامنه وكيده "إلا أن يفاجئهم عدو" كفار "يخافون كَلَبه" بفتح اللام أي: شره وأذاه، فيجوز قتالهم بلا إذنه؛ لتعين المصلحة فيه". (اهـ 1/ 636، ط: عالم الكتب).
ثانيًا: ما في ذلك من خرق للاتفاقات والمواثيق والعهود الدولية التي رضيتها الدول الإسلامية وانضمت إليها وأقرتها بمحض إرادتها وباختيارها؛ توافقًا مع المجتمع الدولي لتحقيق الأمن والسلم الدوليين بقدر التزام الدول الموقعة عليها بها، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، والعقود جمع عَقد، والعقد يطلق على كل التزام واقع بين جانبين في فعل ما، قال شيخ الإسلام التونسي العلامة ابن عاشور معلقًا على هذه الآية في تفسيره: "التعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربّهم، وهو الامتثال لِشريعته... ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- المؤمنين ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا... وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين... ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم". اهـ. (التحرير والتنوير 6/ 74، ط: الدار التونسية للنشر).
وروى الترمذي عن عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحلَّ حَرَامًا».
قال الإمام الجصاص: "وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يَشرُط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة تخصصه". اهـ. (أحكام القرآن 2/ 418، ط: دار الفكر).
وروى البخاري عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ»، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ» أي: عهدهم. وقوله: «يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» أي: يتولى ذمتهم أقلهم عددًا، فإذا أعطى أحد المسلمين عهدًا لم يكن لأحد نقضه، فما بالنا بولي الأمر، وقوله: «مَنْ أَخْفَرَ» أي: نقض العهد، وقوله: «صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» أي: لا فرضًا ولا نفلًا، والمعنى: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله.
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، وروى البيهقي عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إِذَا أَمَّنَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا».
ومِن ثَمّ فإن كل أطراف تلك العهود والمواثيق الدولية هم في حالة سلمٍ وتركٍ للقتال بموجب ما اتفقوا عليه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].
ثالثًا: ما يتضمنه هذا الفعل من مباغتة وقتل للغافلين، وقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لَا يَفْتِكُ الْمُؤْمِنُ، الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ».
قال ابن الأثير: "الْفَتْك أَنْ يَأْتِي الرَّجُل صَاحِبه وهو غَارٌّ غَافِلٌ فَيَشُدّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ". اهـ. (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 775، ط: المكتبة العلمية ببيروت).
ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ» هو خبر بمعنى النهي؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، أو هو نهي، ولما وقع خبيب الأنصاري -رضي الله عنه- أسيرًا لدى المشركين ثم بيع بمكة فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو من قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، وفي يوم استعار خبيب موسى من بنت الحارث ليستحد بها، فأعارته فأخذ ابنًا لها وهي غافلة فلما جاءته وجدته مُجْلِسَهُ على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة، فقال لها خبيب: "تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك"، قالت بنت الحارث: "والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب".
فهذا رجل مسلم أسير لدى أعدائه الذين يدبرون لقتله وهو على شفير الموت، ورغم ذلك عندما تحين له فرصة يمكنه أن يدمي قلوبهم فيها بقتل ابنهم يعف عن ذلك؛ لأن خلق المسلم لا يتضمن الخداع ومباغتة الغافلين.
رابعًا: ما يتضمنه هذا الفعل من قتل وإذاية للنساء والصبيان، وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةَ وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ»، وفي رواية أخرى لهما: «فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». قال الإمام النووي: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون". اهـ. (شرح مسلم 12/ 48، ط: دار إحياء التراث العربي).
خامسًا: ما يستلزمه هذا الفعل من قتل وإذاية للمسلمين الموجودين في هذه البلاد من ساكنيها الأصليين أو ممن وردوا إليها، وقد عظَّم الشرع الشريف دم المسلم ورهّب ترهيبًا شديدًا من إراقته أو المساس به بلا حق؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]، وقال سبحانه: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
وروى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِم»، وروى ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا».
وجريمة قتل المسلم عمدًا وعدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبة القاتل خلاف بين الصحابة ومن بعدهم.
سادسًا: ما سيجره هذا الفعل الأخرق من ويلات ومصائب على المسلمين جميعًا بل والدنيا ككل؛ لأن الدولة المعتدَى عليها قد تقابل هذا التصرف بتصرف مماثل أو أشد نكاية، كما أن الآثار المدمرة الناجمة عن بعض هذه الأسلحة قد تتعدى مجرد البقعة المصابة وتجرفها الرياح إلى بلاد أخرى مجاورة لا جريرة لها.
فمفاسد هذا الفعل العاجلة والآجلة أعظم بكثير من مصالحه إن كان ثم مصلحة فيه أصلًا، ومن القواعد الشرعية العظيمة أن دفع المفسدة واجب، وأنه مقدم على جلب المصلحة.
سابعًا: ما يترتب على استعمال بعض هذه الأسلحة من إتلاف للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلَف ليس مملوكًا للمتلِف بل هو مملوك لغيره كما هو الحال هنا، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى.
ثامنًا: استعمال هذه الأسلحة في بعض صوره يلزمه أن يدخل الفاعل إلى البلاد المستهدفة، وذلك بعد استيفائه الإجراءات الرسمية المطلوبة منه للدخول، وموافقة هذه البلاد على دخول شخص ما إلى بلادها متضمنة أنها توافق على دخوله بشرط عدم الفساد فيها، وهو وإن لم يذكر لفظًا إلا أنه معلوم في المعنى، وقد نص الفقهاء على نحو هذا؛ قال الإمام الخِرَقي في مختصره: "من دخل إلى أرض العدو بأمان، لم يخنهم في مالهم"، قال ابن قدامة شارحًا عبارته: "أما خيانتهم فمحرمة; لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك مَن جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضًا لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحلله خيانتهم؛ لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر". اهـ. (المغني 9/ 237، ط: دار إحياء التراث العربي).
وأما النصوص الشرعية والفقهية التي جُعِلَت تكأة لترويج هذه الفكرة الآثمة فهي نصوص منتزعة من سياقاتها مختلفة في (مناطها)؛ فالاحتجاج بها نوع من الشغب؛ حيث إن فيه إهدارًا للفروق المعتبرة بين الأحوال المختلفة؛ كالفرق بين حالة الحرب وحالة السلم، وأن لحالة الحرب أحكامًا خاصة بها تختلف عن حالة السلم التي تعصم فيها الدماء والأموال والأعراض، وهذا فرق مؤثر لا يستقيم معه إلحاق استعمال هذه الأسلحة بما ورد في كتب الفقه من جواز تبييت العدو وجواز رمي الترس وغيرها من المسائل الواردة في الفقه الإسلامي؛ فقياسها عليها محض خطأ، وإن كانت هذه المسائل المنقولة مسائل صحيحة في نفسها وفي محلها الذي قصده الفقهاء منها وفي حكمها الذي نزّلوه عليها. ولكن الخطأ كل الخطأ في نقل هذه الأحكام الصحيحة من محلها وواقعها إلى محل مغاير وواقع مختلف صورةً وتكييفًا وحكمًا. كما أنه لا يصح قياس استخدام هذه الأسلحة على قتال الصائل وقتله؛ إذ من المعلوم أن هناك فروقًا بين أحكام دفع الصائل وأحكام باب الجهاد، منها: أن الصائل إنما يدفع بالأخف فالأخف، فلو دُفِعَ بالكلام حرم الضرب، ولو أمكن دفعه باليد حرم دفعه بالسيف، وهكذا، وهو ما لا يتسق مع إجازة استعمال أسلحة الدمار الشامل على الوجه المذكور.
وما يُستَدَل به في هذا المقام من الأحاديث الواردة في جواز تبييت المشركين أو جواز استخدام المنجنيق أو جواز التحريق، وقياس استخدام أسلحة الدمار الشامل على هذه الصور هو في الحقيقة قياس باطل؛ لظهور الفرق الشاسع والواضح بين الأمرين من أن هذه الأحاديث واردة في حالة الحرب، وفرق بين حكم حالة الحرب وحكم غيرها، كما أن هناك فارقًا كبيرًا من حيث الأثر بين رمي الأحجار بالمنجنيق وبين رمي أسلحة الدمار الشامل كما لا يخفى؛ لأن أثر الرمي بالمنجنيق قاصر بالنسبة إلى أسلحة الدمار المذكورة، كما أن هذه الوقائع الواردة في السنة النبوية إنما تمت تحت راية ولي الأمر، وهو فارق رئيس وجوهري بينها وبين ما تستلزمه هذه الدعوى من الخروج على ولاة الأمر، وإعطاء آحاد الناس حق إعلان الحروب من عند أنفسهم افتئاتًا على الأمة وعلى ولاة أمورها تحت مسمى الجهاد. كما أن هذه الأحاديث -بفرض صحتها- إنما هي وقائع أعيان لا عموم لها، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الأصل عدم جواز التبييت والتحريق والتخريب؛ اعتمادًا على النصوص القولية في الباب والتي لها صفة العموم.
على أنا نرى أن الصواب هو منع استعمال أنواع أسلحة الدمار الشامل التي تسببت في حرائق عامة؛ اتباعًا لمقتضى النهي القولي عن التحريق بالنار بعد أن أمر به -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم نهى عنه قبل أن يقع، رغم أن الحالة كانت حالة حرب وقال فيما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: «إِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ»، فنهى -صلى الله عليه وآله وسلم- عن التحريق، ومعلوم أن كثيرًا من أسلحة الدمار الشامل تسبب حرائق هائلة، فالصواب منع استخدامها مطلقًا ولو في الحروب للنهي العام عن التحريق.
وأما إلحاق هذه المسألة بمسألة تبييت العدو فهو نوع من المغالطة؛ لأن محل تجويز الفقهاء لمسألة تبييت العدو مقيد بقيود منها: أن يكون ثَمَّ حالة الحرب، وأن يكون العدو المقصود تبييته عدوًّا يجوز قتاله، خلافًا لمن بيننا وبينهم اتفاقات ومواثيق لها حكم الهدنة؛ فلا يجوز تبييت من بيننا وبينه هدنة أو ذمة أو ما جرى مجراهما من المواثيق والعهود والاتفاقات الدولية؛ إذ صار كل طرف من أطرافها موضع تأمين من سائر الأطراف الأخرى على النفوس والأموال والأعراض، وإذا كان هؤلاء لا يجوز معهم التبييت ونحوه فلأن يكون استخدام هذه الأسلحة الفتاكة في حقهم حرامًا من باب أولى وأحرى، أما مسألة التترس ونحوها فإنها لا تجوز إلا في حالة الحرب وبشروط وصور محددة تناولها الفقهاء بالتفصيل. راجع: (البحر الرائق 5/ 80)، (حاشية ابن عابدين 3/ 223)، (روضة الطالبين 10/ 239)، (مغني المحتاج 4/ 223)، (المغني لابن قدامة 8/ 449، 10/ 386).
وبناء على ذلك: فهذه الدعوى من الدعاوى الباطلة، والقول بها والترويج لها من عظيم الإرجاف والإجرام والإفساد في الأرض الذي نهى الله تعالى عنه، وتوعد فاعله بأشد العقاب، قال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 60]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85]، وقال عز من قائل: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22- 23]. والله سبحانه وتعالى أعلم.