Talak Terpaksa dan Paksaan yang Diakui Syariah
Talak Terpaksa dalam Islam. Suami yang menceraikan istrinya karena terpaksa maka tidak jatuh talak asalkan keterpaksaan itu diakui oleh syariah (bersifat syar'i). Apa saja terpaksa yang syar'i itu? Berikut penjelasan dari kitab Al-Mausuah Al-Fiqhiyah hlm. 7/125 - 145
Talak Terpaksa dalam Islam. Suami yang menceraikan istrinya karena terpaksa maka tidak jatuh talak asalkan keterpaksaan itu diakui oleh syariah (bersifat syar'i). Apa saja terpaksa yang syar'i itu? Berikut penjelasan dari kitab Al-Mausuah Al-Fiqhiyah hlm. 7/125 - 145
كراه *
التعريف :
(7/125)
1 - قال في لسان العرب : أكرهته ، حملته على أمر هو له كاره - وفي مفردات الراغب نحوه - ومضى صاحب اللسان يقول : وذكر الله عز وجل الكره والكره في غير موضع من كتابه العزيز ، واختلف القراء في فتح الكاف وضمها . قال أحمد بن يحيى : ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقا في العربية ، ولا في سنة تتبع . وفي المصباح المنير :" الكره ( بالفتح ) : المشقة ، وبالضم : القهر ، وقيل : ( بالفتح ) : الإكراه ، " وبالضم " المشقة . وأكرهته على الأمر إكراها : حملته عليه قهرا . يقال : فعلته كرها " بالفتح " أي إكراها - وعليه قوله تعالى : { طوعا أو كرها } فجمع بين الضدين .
ولخص ذلك كله فقهاؤنا إذ قالوا : الإكراه لغة : حمل الإنسان على شيء يكرهه ، يقال : أكرهت فلانا إكراها : حملته على أمر يكرهه . والكره " بالفتح " اسم منه ( أي اسم مصدر ) . أما الإكراه في اصطلاح الفقهاء فهو : فعل يفعله المرء بغيره ، فينتفي به رضاه ، أو يفسد به اختياره . وعرفه البزدوي بأنه : حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفا به .
أو هو : فعل يوجد من المكره ( بكسر الراء ) فيحدث في المحل ( أي المكره بفتح الراء ) معنى يصير به مدفوعا إلى الفعل الذي طلب منه . والمعنى المذكور في هذا التعريف ، فسروه بالخوف ، ولو مما يفعله الحكام الظلمة بالمتهمين كيدا . فإذا كان الدافع هو الحياء مثلا ، أو التودد ، فليس بإكراه .
2 - والفعل - في جانب المكره ( بكسر الراء ) ليس على ما يتبادر منه من خلاف القول ، ولو إشارة الأخرس ، أو مجرد الكتابة ، بل هو أعم ، فيشمل التهديد - لأنه من عمل اللسان - ولو مفهوما بدلالة الحال من مجرد الأمر : كأمر السلطان أو الأمير ، وأمر قاطع الطريق ، وأمر الخانق الذي يبدو منه الإصرار .
(7/126)
والحنفية يقولون : أمر السلطان ، إكراه - وإن لم يتوعد - وأمر غيره ليس بإكراه ، إلا أن يعلم تضمنه التهديد بدلالة الحال .
وغير الحنفية يسوون بين ذوي البطش والسطوة أيا كانوا ، وصاحب المبسوط نفسه من الحنفية يقول : إن من عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ، ولكنهم لا يعاقبون مخالفيهم إلا به .
3 - ثم المراد بالفعل المذكور - فعل واقع على المكره ( بالفتح ) نفسه - ولو كان تهديدا بأخذ أو حبس ماله الذي له وقع ، لا التافه الذي لا يعتد به ، أو تهديدا بالفجور بامرأته إن لم يطلقها . ويستوي التهديد المقترن بالفعل المهدد به - كما في حديث : أخذ عمار بن ياسر ، وغطه في الماء ليرتد . والتهديد المجرد ، خلافا لمن لم يعتد بمجرد التهديد ، كأبي إسحاق المروزي من الشافعية ، واعتمد . الخرقي من الحنابلة ، تمسكا بحديث عمار هذا ، واستدل الآخرون بالقياس حيث لا فرق ، وإلا توصل المعتدون إلى أغراضهم - بالتهديد المجرد - دون تحمل تبعة ، أو هلك الواقع عليهم هذا التهديد إذا رفضوا الانصياع له ، فكان إلقاء بالأيدي في التهلكة ، وكلاهما محذور لا يأتي الشرع بمثله . بل في الأثر عن عمر - وفيه انقطاع - ما يفيد هذا التعميم : ذلك أن رجلا في عهده تدلى يشتار ( يستخرج ) عسلا ، فوقفت امرأته على الحبل ، وقالت : طلقني ثلاثا ، وإلا قطعته ، فذكرها الله والإسلام ، فقالت : لتفعلن ، أو لأفعلن ، فطلقها ثلاثا . ورفعت القصة إلى عمر ، فرأى طلاق الرجل لغوا ، ورد عليه المرأة ، ولذا اعتمد ابن قدامة عدم الفرق .
(7/127)
ويتفرع على هذا التفسير أنه لو وقع التهديد بقتل رجل لا يمت إلى المهدد بسبب ، إن هو لم يدل على مكان شخص بعينه يراد للقتل ، فإن هذا لا يكون إكراها ، حتى لو أنه وقعت الدلالة ممن طلبت منه ، ثم قتل الشخص المذكور ، لكان الدال معينا على هذا القتل عن طواعية إن علم أنه المقصود - والمعين شريك للقاتل عند أكثر أهل العلم ، بشرائط خاصة - وذهب أبو الخطاب الحنبلي إلى أن التهديد في أجنبي إكراه في الأيمان ، واستظهره ابن رجب .
4 - والفعل ، في جانب المكره ( بفتح الراء ) ، هو أيضا أعم من فعل اللسان وغيره ، إلا أن أفعال القلوب لا تقبل الإكراه ، فيشمل القول بلا شك .
وفيما يسميه فقهاؤنا بالمصادرة في أبواب البيوع وما إليها ، الفعل الذي يطلب من المكره ( بالفتح ) دفع المال وغرامته ، لا سبب الحصول عليه من بيع أو غيره - كاستقراض - فيصح السبب ويلزم وإن علم أنه لا مخلص له إلا بسبب معين ، إلا أن المكره ( بالكسر ) لم يعينه له في إكراهه إياه . ولذا قالوا : إن الحيلة في جعل السبب مكرها عليه ، أن يقول : المكره ( بالفتح ) : من أين أتى بالمال ؟ فإذا عين له المكره ( بالكسر ) سببا ، كأن قال له : بع كذا ، أو عند ابن نجيم اقتصر على الأمر بالبيع دون تعيين المبيع ، وقع هذا السبب المعين تحت طائلة الإكراه .
ولم يخالف في هذا إلا المالكية - باستثناء ابن كنانة ومتابعيه - إذ جعلوا السبب أيضا مكرها عليه بإطلاق .
ويشمل التهديد بإيذاء الغير ، ممن يحبه من وقع عليه التهديد - على الشرط المعتبر فيما يحصل به الإكراه من أسبابه المتعددة - بشريطة أن يكون ذلك المحبوب رحما محرما ، أو - كما زاد بعضهم - زوجة .
(7/128)
والمالكية ، وبعض الحنابلة يقيدونه بأن يكون ولدا وإن نزل ، أو والدا وإن علا . والشافعية - وخرجه صاحب القواعد الأصولية من الحنابلة - لا يقيدونه إلا بكونه ممن يشق على المكره ( بالفتح ) إيذاؤه مشقة شديدة كالزوجة ، والصديق ، والخادم . ومال إليه بعض الحنابلة . حتى لقد اعتمد بعض الشافعية أن من الإكراه ما لو قال الوالد لولده ، أو الولد لوالده ( دون غيرهما ) : طلق زوجتك ، وإلا قتلت نفسي ، بخلاف ما لو قال : وإلا كفرت ، لأنه يكفر في الحال .
وفي التقييد بالولد أو الوالد نظر لا يخفى .
كما أنه يصدق على نحو الإلقاء من شاهق أي : الإلجاء بمعناه الحقيقي المنافي للقدرة الممكنة من الفعل والترك .
والمالكية - وجاراهم ابن تيمية - اكتفوا بظن الضرر من جانب المكره ( بالفتح ) إن لم يفعل ، وعبارتهم : يكون ( أي الإكراه ) بخوف مؤلم .
الألفاظ ذات الصلة :
- الرضى والاختيار :
الرضى لغة : الاختيار . يقال : رضيت الشيء ورضيت به : اخترته . والاختيار لغة : أخذ ما يراه خيرا .
وأما في الاصطلاح ، فإن جمهور الفقهاء لم يفرقوا بين الرضى والاختيار ، لكن ذهب الحنفية إلى التفرقة بينهما .
فالرضى عندهم هو : امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته ، بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها .
أو هو : إيثار الشيء واستحسانه . والاختيار عند الحنفية هو : القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر . أو هو : القصد إلى الشيء وإرادته .
حكم الإكراه :
6 - الإكراه بغير حق ليس محرما فحسب ، بل هو إحدى الكبائر ، لأنه أيضا ينبئ بقلة الاكتراث بالدين ، ولأنه من الظلم . وقد جاء في الحديث القدسي : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... » .
شرائط الإكراه
الشريطة الأولى :
(7/129)
7 - قدرة المكره ( بالكسر ) على إيقاع ما هدد به ، لكونه متغلبا ذا سطوة وبطش - وإن لم يكن سلطانا ولا أميرا - ذلك أن تهديد غير القادر لا اعتبار له .
الشريطة الثانية :
8 - خوف المكره ( بفتح الراء ) من إيقاع ما هدد به ، ولا خلاف بين الفقهاء في تحقق الإكراه إذا كان المخوف عاجلا . فإن كان آجلا ، فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة والأذرعي من الشافعية إلى تحقق الإكراه مع التأجيل . وذهب جماهير الشافعية إلى أن الإكراه لا يتحقق مع التأجيل ، ولو إلى الغد . والمقصود بخوف الإيقاع غلبة الظن ، ذلك أن غلبة الظن معتبرة عند عدم الأدلة ، وتعذر التوصل إلى الحقيقة .
الشريطة الثالثة :
9 - أن يكون ما هدد به قتلا أو إتلاف عضو ، ولو بإذهاب قوته مع بقائه كإذهاب البصر ، أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها ، أو غيرهما مما يوجب غما يعدم الرضا ، ومنه تهديد المرأة بالزنى ، والرجل باللواط .
أما التهديد بالإجاعة ، فيتراوح بين هذا وذاك ، فلا يصير ملجئا إلا إذا بلغ الجوع بالمكره ( بالفتح ) حد خوف الهلاك .
ثم الذي يوجب غما يعدم الرضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال : فليس الأشراف كالأراذل ، ولا الضعاف كالأقوياء ، ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير ، والنظر في ذلك مفوض إلى الحاكم ، يقدر لكل واقعة قدرها .
الشريطة الرابعة :
10 - أن يكون المكره ممتنعا عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه ، إما لحق نفسه - كما في إكراهه على بيع ماله - وإما لحق شخص آخر ، وإما لحق الشرع - كما في إكراهه ظلما على إتلاف مال شخص آخر ، أو نفس هذا الشخص ، أو الدلالة عليه لذلك أو على ارتكاب موجب حد في خالص حق الله ، كالزنى وشرب الخمر .
الشريطة الخامسة :
(7/130)
11 - أن يكون محل الفعل المكره عليه متعينا . وهذا عند الشافعية وبعض الحنابلة على إطلاقه . وفي حكم المتعين عند الحنفية ، ومن وافقهم من الحنابلة ما لو خير بين أمور معينة . ويتفرغ على هذا حكم المصادرة التي سلف ذكره في فقرة .
ومنه يستنبط أن موقف المالكية في حالة الإبهام أدنى إلى مذهب الحنفية ، بل أوغل في الاعتداد بالإكراه حينئذ ، لأنهم لم يشترطوا أن يكون مجال الإبهام أمورا معينة .
أما الإكراه على طلاق إحدى هاتين المرأتين ، أو قتل أحد هذين الرجلين ، فمن مسائل الخلاف الذي صدرنا به هذه الشريطة : فعند الحنفية والمالكية ، ومعهم موافقون من الشافعية والحنابلة ، يتحقق الإكراه برغم هذا التخيير .
وعند جماهير الشافعية ، وقلة من الحنابلة ، لا يتحقق ، لأن له مندوحة عن طلاق كل بطلاق الأخرى - وكذا في القتل - نتيجة عدم تعيين المحل . والتفصيل في الفصل الثاني . الشريطة السادسة :
12 - ألا يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه ، فإن كانت له مندوحة عنه ، ثم فعله لا يكون مكرها عليه ، وعلى هذا لو خير المكره بين أمرين فإن الحكم يختلف تبعا لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحل ، وتفصيل الكلام في ذلك كما يلي :
إن الأمرين المخير بينهما إما أن يكون كل واحد منهما محرما لا يرخص فيه ، ولا يباح أصلا ، كما لو وقع التخيير بين الزنى والقتل .
أو يكون كل واحد منهما محرما يرخص فيه عند الضرورة ، كما لو وقع التخيير بين الكفر وإتلاف مال الغير . أو يكون كل واحد منهما محرما يباح عند الضرورة ، كما لو وقع التخيير بين أكل الميتة وشرب الخمر . أو يكون كل واحد منهما مباحا أصالة أو للحاجة ، كما لو وقع التخيير بين طلاق امرأته وبيع شيء من ماله ، أو بين جمع المسافر الصلاة في الحج وفطره في نهار رمضان .
(7/131)
ففي هذه الصور الأربع التي يكون الأمران المخير بينهما متساويين في الحرمة أو الحل ، يترتب حكم الإكراه على فعل أي واحد من الأمرين المخير بينهما ، وهو الحكم الذي سيجيء تقريره بخلافاته وكل ما يتعلق به ، لأن الإكراه في الواقع ليس إلا على الأحد الدائر دون تفاوت ، وهذا لا تعدد فيه ، ولا يتحقق إلا في معين ، وقد خالف في هذا أكثر الشافعية وبعض الحنابلة ، فنفوا حصول الإكراه في هذه الصور .
وإن تفاوت الأمران المخير بينهما ، فإن كان أحدهما محرما لا يرخص فيه ولا يباح بحال كالزنى والقتل ، فإنه لا يكون مندوحة ، ويكون الإكراه واقعا على المقابل له ، سواء أكان هذا المقابل محرما يرخص فيه عند الضرورة ، كالكفر وإتلاف مال الغير ، أم محرما يباح عند الضرورة ، كأكل الميتة وشرب الخمر ، أم مباحا أصالة أو للحاجة ، كبيع كشيء معين من مال المكره ، والإفطار في نهار رمضان ، ويترتب على هذا الإكراه حكمه الذي سيجيء تفصيله بخلافاته .
وتكون هذه الأفعال مندوحة مع المحرم الذي لا يرخص فيه ولا يباح بحال ، أما هو فإنه لا يمكن مندوحة لواحد منها ، ففي الصور الثلاث المذكور آنفا ، وهي ما لو وقع التخيير بين الزنى أو القتل وبين الكفر أو إتلاف مال الغير ، أو وقع التخيير بين الزنى أو القتل وبين أكل الميتة أو شرب الخمر ، أو وقع التخيير بين الزنى أو القتل وبين بيع شيء معين من المال ، فإن الزنى أو القتل لا يكون مكرها عليه ، فمن فعل واحدا منهما كان فعله صادرا عن طواعية لا إكراه ، فيترتب عليه أثره إذا كان الإكراه ملجئا حتى يتحقق الإذن في فعل المندوحة ، وكان الفاعل عالما بالإذن له في فعل المندوحة عند الإكراه .
(7/132)
وإن كان أحد الأمرين المخير بينهما محرما يرخص فيه عند الضرورة ، والمقابل له محرما يباح عند الضرورة ، كما لو وقع التخيير بين الكفر أو إتلاف مال الغير ، وبين أكل الميتة أو شرب الخمر ، فإنهما يكونان في حكم الأمرين المتساويين في الإباحة ، فلا يكون أحدهما مندوحة عن فعل الآخر ، ويكون الإكراه واقعا على فعل كل واحد من الأمرين المخير بينهما ، متى كان بأمر متلف للنفس أو لأحد الأعضاء .
وإن كان أحد الأمرين محرما يرخص فيه أو يباح عند الضرورة ، والمقابل له مباحا أصالة أو للحاجة ، كما لو وقع التخيير بين الكفر أو شرب الخمر ، وبين بيع شيء من مال المكره أو الفطر في نهار رمضان ، فإن المباح في هذه الحالة يكون مندوحة عن الفعل المحرم الذي يرخص فيه أو يباح عند الضرورة ، وعلى هذا يظل على تحريمه ، سواء كان الإكراه بمتلف للنفس أو العضو أو بغير متلف لأحدهما ، لأن الإكراه بغير المتلف لا يزيل الحظر عند الحنفية مطلقا ، والإكراه بمتلف - وإن كان يزيل الحظر - إلا أن إزالته له بطريق الاضطرار ، ولا اضطرار مع وجود المقابل المباح .
تقسيم الإكراه
ينقسم الإكراه إلى : إكراه بحق ، وإكراه بغير حق . والإكراه بغير حق ينقسم إلى إكراه ملجئ ، وإكراه غير ملجئ .
أولا : الإكراه بحق :
تعريفه :
13 - هو الإكراه المشروع ، أي الذي لا ظلم فيه ولا إثم . وهو ما توافر فيه أمران : الأول : أن يحق للمكره التهديد بما هدد به . الثاني : أن يكون المكره عليه مما يحق للمكره الإلزام به . وعلى هذا فإكراه المرتد على الإسلام إكراه بحق ، حيث توافر فيه الأمران ، وكذلك إكراه المدين القادر على وفاء الدين ، وإكراه المولي على الرجوع إلى زوجته أو طلاقها إذا مضت مدة الإيلاء .
أثره :
(7/133)
14 - والعلماء عادة يقولون : إن الإكراه بحق ، لا ينافي الطوع الشرعي - وإلا لم تكن له فائدة ، ويجعلون من أمثلته إكراه العنين على الفرقة ، ومن عليه النفقة على الإنفاق ، والمدين والمحتكر على البيع ، وكذلك من له أرض بجوار المسجد أو المقبرة أو الطريق يحتاج إليها من أجل التوسيع ، ومن معه طعام يحتاجه مضطر .
ثانيا : الإكراه بغير حق :
تعريفه :
15 - الإكراه بغير حق هو الإكراه ظلما ، أو الإكراه المحرم ، لتحريم وسيلته ، أو لتحريم المطلوب به . ومنه إكراه المفلس على بيع ما يترك له ..
الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ :
16 - تقسيم الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ يتفرد به الحنفية .
فالإكراه الملجئ عندهم هو الذي يكون بالتهديد بإتلاف النفس أو عضو منها ، أو بإتلاف جميع المال ، أو بقتل من يهم الإنسان أمره .
وحكم هذا النوع أنه يعدم الرضى ويفسد الاختيار ولا يعدمه . أما إعدامه للرضى ، فلأن الرضا هو الرغبة في الشيء والارتياح إليه ، وهذا لا يكون مع أي إكراه .
وأما إفساده للاختيار دون إعدامه ، فلأن الاختيار هو : القصد إلى فعل الشيء أو تركه بترجيح من الفاعل ، وهذا المعنى لا يزول بالإكراه ، فالمكره يوقع الفعل بقصده إليه ، إلا أن هذا القصد تارة يكون صحيحا سليما ، إذا كان منبعثا عن رغبة في العمل ، وتارة يكون فاسدا ، إذا كان ارتكابا لأخف الضررين ، وذلك كمن أكره على أحد أمرين كلاهما شر ، ففعل أقلهما ضررا به ، فإن اختياره لما فعله لا يكون اختيارا صحيحا ، بل اختيارا فاسدا . والإكراه غير الملجئ هو : الذي يكون بما لا يفوت النفس أو بعض الأعضاء ، كالحبس لمدة قصيرة ، والضرب الذي لا يخشى منه القتل أو تلف بعض الأعضاء .
(7/134)
وحكم هذا النوع أنه يعدم الرضا ولكن لا يفسد الاختيار ، وذلك لعدم اضطرار المكره إلى الإتيان بما أكره عليه ، لتمكنه من الصبر على تحمل ما هدد به بخلاف النوع الأول .
17 - أما غير الحنفية فلم يقسموا الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ كما فعل الحنفية ، ولكنهم تكلموا عما يتحقق به الإكراه وما لا يتحقق ، ومما قرروه في هذا الموضوع يؤخذ أنهم جميعا يقولون بما سماه الحنفية إكراها ملجئا ، أما ما يسمى بالإكراه غير الملجئ فإنهم يختلفون فيه ، فعلى إحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد يعتبر إكراها ، وعلى الرواية الأخرى لا يعتبر إكراها .
أما عند المالكية فإنه لا يعتبر إكراها بالنسبة لبعض المكره عليه ، ويعتبر إكراها بالنسبة للبعض الآخر ، فمن المكره عليه الذي لا يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراها فيه : الكفر بالقول أو الفعل ، والمعصية التي تعلق بها حق لمخلوق ، كالقتل أو القطع ، والزنى بامرأة مكرهة أو لها زوج ، وسب نبي أو ملك أو صحابي ، أو قذف لمسلم .
ومن المكره عليه الذي يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراها فيه : شرب الخمر ، وأكل الميتة ، والطلاق والأيمان والبيع وسائر العقود والحلول والآثار .
أثر الإكراه :
18 - هذا الأثر موضع خلاف ، بين الحنفية وغير الحنفية ، على النحو الآتي :
أثر الإكراه عند الحنفية :
(7/135)
19 - يختلف أثر الإكراه عند الحنفية باختلاف القول أو الفعل الذي يقع الإكراه عليه ، فإن كان المكره عليه من الإقرارات ، كان أثر الإكراه إبطال الإقرار وإلغاءه ، سواء كان الإكراه ملجئا أم غير ملجئ . فمن أكره على الاعتراف بمال أو زواج أو طلاق كان اعترافه باطلا ، ولا يعتد به شرعا ، لأن الإقرار إنما جعل حجة في حق المقر باعتبار ترجح جانب الصدق فيه على جانب الكذب ، ولا يتحقق هذا الترجيح مع الإكراه ، إذ هو قرينة قوية على أن المقر لا يقصد بإقراره الصدق فيما أقر به ، وإنما يقصد دفع الضرر الذي هدد به عن نفسه . وإن كان المكره عليه من العقود والتصرفات الشرعية كالبيع والإجارة والرهن ونحوها كان أثر الإكراه فيها إفسادها لا إبطالها ، فيترتب عليها ما يترتب على العقد الفاسد ، حسب ما هو مقرر في المذهب أنه ينقلب صحيحا لازما بإجازة المكره ، وكذلك لو قبض المكره الثمن ، أو سلم المبيع طوعا ، يترتب عليه صحة البيع ولزومه .
(7/136)
وحجتهم في ذلك أن الإكراه عندهم لا يعدم الاختيار الذي هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس ، وإنما يعدم الرضى الذي هو الارتياح إلى الشيء والرغبة فيه ، والرضى ليس ركنا من أركان هذه التصرفات ولا شرطا من شروط انعقادها ، وإنما هو شرط من شروط صحتها ، فإذن فقد ترتب على فقدانه فساد العقد لا بطلانه . ولكنهم استثنوا من ذلك بعض التصرفات ، فقالوا بصحتهما مع الإكراه ، ولو كان ملجئا ، ومن هذه التصرفات : الزواج والطلاق ومراجعة الزوجة والنذر واليمين . وعللوا هذا بأن الشارع اعتبر اللفظ في هذه التصرفات - عند القصد إليه - قائما مقام إرادة معناه ، فإذا وجد اللفظ ترتب عليه أثره الشرعي ، وإن لم يكن لقائله قصد إلى معناه ، كما في الهازل ، فإن الشارع اعتبر هذه التصرفات صحيحة إذا صدرت منه ، مع انعدام قصده إليها ، وعدم رضاه بما يترتب عليها من الآثار . وإن كان المكره عليه من الأفعال ، كالإكراه على قتل من لا يحل قتله ، أو إتلاف مال لغيره أو شرب الخمر وما أشبه ذلك ، فالحكم فيها يختلف باختلاف نوع الإكراه والفعل المكره عليه .
20 - فإن كان الإكراه غير ملجئ - وهو الذي يكون بما لا يفوت النفس ، أو بعض الأعضاء كالحبس لمدة قصيرة ، أو أخذ المال اليسير ، ونحو ذلك - فلا يحل الإقدام على الفعل . وإذا أقدم المكره ( بالفتح ) على الفعل بناء على هذا الإكراه كانت المسئولية عليه وحده ، لا على من أكرهه
21 - وإن كان الإكراه ملجئا - وهو الذي يكون بالقتل أو تفويت بعض الأعضاء أو العمل المهين لذي الجاه - فالأفعال بالنسبة إليه أربعة أنواع :
أ - أفعال أباحها الشارع أصالة دون إكراه كالأكل والشرب ، فإنه إذا أكره على ارتكابها وجب على المكره ( بالفتح ) أن يرتكب أخف الضررين .
(7/137)
ب - أفعال أباح الشارع إتيانها عند الضرورة ، كشرب الخمر وأكل لحم الميتة أو الخنزير ، وغير ذلك من كل ما حرم لحق الله لا لحق الآدمي ، فالعقل - مع الشرع - يوجبان ارتكاب أخف الضررين .
فهذه يباح للمكره فعلها ، بل يجب عليه الإتيان . بها ، إذا ترتب على امتناعه قتل نفسه أو تلف عضو من أعضائه ، لأن الله تعالى أباحها عند الضرورة بقوله عز من قائل : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } .
ولا شك أن الإكراه الملجئ من الضرورة التي رفع الله الإثم فيها ، فيباح الفعل عند تحققها ، وتناول المباح دفعا للهلاك عن النفس أو بعض أجزائها واجب ، فلا يجوز تركه ، ولو شرب الخمر مكرها لم يحد ، لأنه لا جناية حينئذ ، والحد إنما شرع زجرا عن الجنايات .
ج - أفعال رخص الشارع في فعلها عند الضرورة ، إلا أنه لو صبر المكره على تحمل الأذى ، ولم يفعلها حتى مات ، كان مثابا من الله تعالى ، وذلك كالكفر بالله تعالى أو الاستخفاف بالدين ، فإذا أكره الإنسان على الإتيان بشيء من ذلك جاز له الفعل متى كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لقول الله عز وجل { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
ومن السنة ما جاء بإسناد صحيح عند الحاكم والبيهقي وغيرهما عن محمد بن عمار عن أبيه « أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ، فلما أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال : ما وراءك ؟ قال : شر ، يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، قال صلى الله عليه وسلم : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنا بالإيمان ، قال صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد » .
(7/138)
وقد ألحق علماء المذهب بهذا النوع الإكراه على إفساد صوم رمضان ، أو ترك الصلاة المفروضة ، أو إتلاف مال الغير ، فإن المكره لو صبر وتحمل الأذى ، ولم يفعل ما أكره عليه كان مثابا ، وإن فعل شيئا منها فلا إثم عليه ، وكان الضمان في صورة الإتلاف على الحامل عليه لا على الفاعل ، لأن فعل الإتلاف يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلة له ، فيثبت الضمان عليه .
د - أفعال لا يحل للمكره الإقدام عليها بحال من الأحوال ، كقتل النفس بغير حق ، أو قطع عضو من أعضائها ، أو الضرب الذي يؤدي إلى الهلاك ، فهذه الأفعال لا يجوز للمكره الإقدام عليها ، ولو كان في امتناعه عنها ضياع نفسه ، لأن نفس الغير معصومة كنفس المكره ، ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بإيقاعه على غيره ، فإن فعل كان آثما ، ووجب عقاب الحامل له على هذا الفعل باتفاق علماء المذهب ، والخلاف بينهم إنما هو في نوع هذا العقاب .
فأبو حنيفة ومحمد يقولان : إنه القصاص ، لأن القتل يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلة له ، والقصاص إنما يكون على القاتل لا على آلة القتل .
وأبو يوسف يقول : إنه الدية ، لأن القصاص لا يثبت إلا بالجناية الكاملة ، ولم توجد الجناية الكاملة بالنسبة لكل من الحامل والمكره .
(7/139)
وهذا القتل يقوم مانعا من الإرث بالنسبة للمكره ( بالكسر ) إذا كان المكره ( بالفتح ) مكلفا . أما إذا كان غير مكلف كالصبي أو المجنون فلا يكون مانعا . وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ، أما أبو يوسف فلا يحرم ولو كان المكره مكلفا . أما بالنسبة للمكره ( بالفتح ) فلا يحرم باتفاق الحنفية . وإنما يجب القصاص عند أبي حنيفة ومحمد على المكره إذا كان المطلوب قتله شخصا ثالثا غير المكره ولا المكره ، فإن كان المطلوب قتله هو المكره كأن قال للذي قتله : اقتلني وإلا قتلتك ، فقتله ، فلا قصاص على القاتل ، وتجب الدية لوجود الشبهة ، ولأن الدية تثبت للوارث ابتداء لا ميراثا عن المقتول .
وأما إن كان المطلوب قتله هو المكره ، فإنه لا يكون ثم إكراه ، لأن المهدد به لا يزيد على القتل ، فلا يتحقق الإكراه ولا شيء من آثاره ، فلا قصاص ولا دية في هذا القتل ، إلا إذا كان التهديد بقتل أشنع كما لو قال له : لتلقين نفسك في النار أو لأقتلنك ، فعند أبي حنيفة يختار ما هو الأهون في ظنه ، وعند الصاحبين : يصبر ولا يقتل نفسه ، لأن مباشرة الفعل سعي في إهلاك نفسه فيصبر تحاميا عنه . ثم إذا ألقى نفسه في النار فاحترق فعلى المكره القصاص باتفاقهم ، كما في الزيلعي .
ونقل صاحب مجمع الأنهر أن القصاص إنما هو عند أبي حنيفة خلافا للصاحبين .
(7/140)
ومن هذا النوع أيضا : الزنى ، فإنه لا يرخص فيه مع الإكراه ، كما لا يرخص فيه حالة الاختيار ، لأن حرمة الزنى لا ترتفع بحال من الأحوال ، فإذا فعله إنسان تحت تأثير الإكراه كان آثما ، ولكن لا يجب عليه الحد ، لأن الإكراه يعتبر شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات . وقد أورد البابرتي من الحنفية ضابطا لأثر الإكراه نصه : الإكراه الملجئ معتبر شرعا سواء ، أكان على القول أم الفعل . والإكراه غير الملجئ إن كان على فعل فليس بمعتبر ، ويجعل كأن المكره فعل ذلك الفعل بغير إكراه . وإن كان على قول ، فإن كان قولا يستوي فيه الجد والهزل فكذلك ، وإلا فهو معتبر .
أثر الإكراه عند المالكية :
22 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه :
أ - فإن كان المكره عليه عقدا أو حلا أو إقرارا أو يمينا لم يلزم المكره شيء ، ويكون الإكراه في ذلك بالتخويف بقتل أو ضرب مؤلم أو سجن أو قيد أو صفع لذي مروءة على ملأ من الناس . وإن أجاز المكره ( بالفتح ) شيئا مما أكره عليه - غير النكاح - طائعا بعد زوال الإكراه لزم على الأحسن ، وأما النكاح فلا تصح إجازته .
ب - وإن كان الإكراه على الكفر بأي صورة من صوره ، أو قذف المسلم بالزنى ، أو الزنى بامرأة طائعة خلية ( غير متزوجة ) ، فلا يحل له الإقدام على شيء من هذه الأشياء إلا في حالة التهديد بالقتل ، لا فيما دونه من قطع أو سجن ونحوه ، فإن فعل ذلك اعتبر مرتدا ، ويحد في قذف المسلم ، وفي الزنى .
(7/141)
ج - وإن كان الإكراه على قتل مسلم ، أو قطع عضو منه ، أو على زنى بمكرهة ، أو بامرأة لها زوج ، فلا يجوز الإقدام على شيء من ذلك ولو أكره بالقتل . فإن قتل يقتص منه ، ويعتبر القتل هنا مانعا للقاتل من ميراث المقتول ، لأنه شريك في الفعل ، وكذلك المكره ( بالكسر ) يقتص منه أيضا ويمنع من الميراث . وإنما يجب القصاص عندهم على المكره والمكره ، إذا كان المطلوب قتله شخصا ثالثا غيرهما .
فإن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالكسر ) كما لو قال للذي قتله : اقتلني وإلا قتلتك فقتله ، فلا قصاص عندهم وتجب الدية ، لمكان الشبهة من ناحية ، وبناء على أن الدية تثبت للوارث ابتداء لا ميراثا . وأما إن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالفتح ) ، فالأصل أنه لا يتحقق الإكراه في هذه الحالة ، ولا قصاص فيه ولا دية ، إلا إذا كان التهديد بقتل أشنع ، كالإحراق بالنار وبتر الأعضاء حتى الموت ، فإن المكره ( بالفتح ) يختار أهون الميتتين ، جزم به اللقاني . وإن زنى يحد .
د - وأما لو أكره على فعل معصية - غير الكفر - لا حق فيها لمخلوق كشرب خمر وأكله ميتة ، أو إبطال عبادة كصلاة وصوم ، أو على تركها فيتحقق الإكراه بأية وسيلة من قتل أو غيره . ويترتب عليه في الصوم القضاء دون الكفارة . وفي الصلاة يكون الإكراه بمنزلة المرض المسقط لبعض أركانها ، ولا يسقط وجوبها . وفي شرب الخمر لا يقام الحد . وألحق سحنون بهذا النوع الزنى بامرأة طائعة لا زوج لها ، خلافا للمذهب .
ويضيف المالكية أن القطع في السرقة يسقط بالإكراه مطلقا ، ولو كان بضرب أو سجن لأنه شبهة تدرأ الحد .
أثر الإكراه عند الشافعية :
23 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه .
(7/142)
أ - الإكراه بالقول : إذا كان المكره عليه عقدا أو حلا أو أي تصرف قولي أو فعلي ، فإنه لا يصح عملا بعموم الحديث الصحيح : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » إذ المقصود ليس رفع ما وقع لمكان الاستحالة ، وإنما رفع حكمه ، ما لم يدل دليل على خلاف ذلك ، فيخصص هذا العموم في موضع دلالته . وبمقتضى أدلة التخصيص يقرر الشافعية أنه لا أثر لقول المكره ( بالفتح ) إلا في الصلاة فتبطل به وعلى هذا فيباح للمكره ( بالفتح ) التلفظ بكلمة الكفر ، ولا يجب ، بل الأفضل الامتناع مصابرة على الدين واقتداء بالسلف .
وفي طلاق زوجة المكره ( بالكسر ) أو بيع ماله ونحوهما من كل ما يعتبر الإكراه فيه إذنا أبلغ . والإكراه في شهادة الزور التي تفضي إلى القتل أو الزنى ، وفي الإكراه بالحكم الباطل الذي يفضي إلى القتل أو الزنى ، فلا يرتفع الإثم عن شاهد الزور ، ولا عن الحاكم الباطل ، وحكمهما في هذه الحالة من حيث الضمان حكم المكره ( بالكسر )
ب - الإكراه بالفعل : لا أثر للإكراه بالفعل عند الشافعية إلا فيما يأتي :
-1 -الفعل المضمن كالقتل أو إتلاف المال أو الغصب ، فعلى المكره ( بالفتح ) القصاص أو الضمان ، وقرار الضمان على المكره ( بالكسر ) ، وإن قيل : لا رجوع له على المكره ( بالكسر ) بما غرم في إتلاف المال ، لأنه افتدى بالإتلاف نفسه عن الضرر . قال القليوبي في مسألة القتل : فيقتل هو المكره ( بالفتح ) ومن أكرهه .
-2- الزنى وما إليه : يأثم المكره ( بالفتح ) بالزنى ، ويسقط الحد للشبهة ، ويترتب على وطء الشبهة حكمه .
-3 - الرضاع : فيترتب عليه التحريم المؤبد في المناكحات وما ألحق بها .
-4- كل فعل يترتب عليه بطلان الصلاة ، كالتحول عن القبلة ، والعمل الكثير ، وترك قيام القادر في الفريضة ، والحدث ، فتبطل الصلاة بما تقدم برغم الإكراه عليه .
(7/143)
-5- ذبح الحيوان : تحل ذبيحة المكره ( بالفتح ) الذي تحل ذبيحته ، كالمسلم والكتابي ولو كان المكره ( بالكسر ) مجوسيا ، أو محرما والمذبوح صيد .
قال السيوطي : وقد رأيت الإكراه يساوي النسيان ، فإن المواضع المذكورة ، إما من باب ترك المأمور ، فلا يسقط تداركه ، ولا يحصل الثواب المرتب عليه ، وإما من باب الإتلاف ، فيسقط الحكم المرتب عليه ، وتسقط العقوبة المتعلقة به ، إلا القتل على الأظهر .
أثر الإكراه عند الحنابلة :
24 - يختلف أثر الإكراه عند الحنابلة باختلاف المكره عليه :
أ - فالتصرفات القولية تقع باطلة مع الإكراه إلا النكاح ، فإنه يكون صحيحا مع الإكراه ، قياسا للمكره على الهازل . وإنما لم يقع الطلاق مع الإكراه للحديث الشريف
« لا طلاق في إغلاق » ، والإكراه من الإغلاق .
ب - ومن أكره على الكفر لا يعتبر مرتدا ، ومتى زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه ، والأفضل لمن أكره على الكفر أن يصبر وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن ، فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام ، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا .
أما من يجوز إكراهه على الإسلام كالمرتد ، فإنه إذا أكره فأسلم حكم بإسلامه ظاهرا .
ج - والإكراه يسقط الحدود عن المكره ، لأنه شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .
(7/144)
د - وإذا أكره رجل آخر على قتل شخص فقتله ، وجب القصاص على المكره والمكره جميعا ، وإن صار الأمر إلى الدية وجبت عليهما ، وإن أحب ولي المقتول قتل أحدهما ، وأخذ نصف الدية من الآخر أو العفو فله ذلك . ويعتبر القتل هنا مانعا من الميراث بالنسبة للمكره والمكره . والقصاص عندهم لا يجب على المكره والمكره ، إلا إذا كان المطلوب قتله شخصا ثالثا غيرهما . فإن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالكسر ) فإنه يكون هدرا ، ولا قصاص ولا دية في المختار عندهم . وأما إن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالفتح ) ، فلا يتحقق الإكراه في هذه الحالة ، ولا دية ولا قصاص عند بعضهم . إلا إذا كان التهديد بقتل أشنع فعليه أن يختار أهون الميتتين في إحدى الروايتين .
أثر إكراه الصبي على قتل غيره :
25 - إذا كان المكره على القتل صبيا ، فإنه يعتبر آلة في يد المكره عند الحنفية ، فلا قصاص ولا دية ، وإنما القصاص على المكره ( بالكسر ) .
وذهب المالكية إلى وجوب القصاص على المكره ( بالكسر ) ونصف الدية على عاقلة الصبي . وذهب الشافعية إلى التفرقة بين الصبي المميز ، وغير المميز .
فإن كان غير مميز ، اعتبر آلة عندهم ، ولا شيء عليه ، ويجب القصاص على المكره . وإن كان مميزا ، فيجب نصف الدية على عاقلته ، والقصاص على المكره ( بالكسر ) . وذهب الحنابلة إلى أن الصبي غير المميز إذا أكره على قتل غيره فلا قصاص عليه ، والقصاص على المكره ( بالكسر ) . وفي قول : لا يجب القصاص لا عليه وعلى من أكرهه ، لأن عمد الصبي خطأ ، والمكره ( بالكسر ) شريك المخطئ ، ولا قصاص على شريك مخطئ . أما إذا كان الصبي مميزا فلا يجب القصاص على المكره ( بالكسر ) ولا يجب على الصبي المميز .
كراه *
التعريف :
(7/125)
1 - قال في لسان العرب : أكرهته ، حملته على أمر هو له كاره - وفي مفردات الراغب نحوه - ومضى صاحب اللسان يقول : وذكر الله عز وجل الكره والكره في غير موضع من كتابه العزيز ، واختلف القراء في فتح الكاف وضمها . قال أحمد بن يحيى : ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقا في العربية ، ولا في سنة تتبع . وفي المصباح المنير :" الكره ( بالفتح ) : المشقة ، وبالضم : القهر ، وقيل : ( بالفتح ) : الإكراه ، " وبالضم " المشقة . وأكرهته على الأمر إكراها : حملته عليه قهرا . يقال : فعلته كرها " بالفتح " أي إكراها - وعليه قوله تعالى : { طوعا أو كرها } فجمع بين الضدين .
ولخص ذلك كله فقهاؤنا إذ قالوا : الإكراه لغة : حمل الإنسان على شيء يكرهه ، يقال : أكرهت فلانا إكراها : حملته على أمر يكرهه . والكره " بالفتح " اسم منه ( أي اسم مصدر ) . أما الإكراه في اصطلاح الفقهاء فهو : فعل يفعله المرء بغيره ، فينتفي به رضاه ، أو يفسد به اختياره . وعرفه البزدوي بأنه : حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفا به .
أو هو : فعل يوجد من المكره ( بكسر الراء ) فيحدث في المحل ( أي المكره بفتح الراء ) معنى يصير به مدفوعا إلى الفعل الذي طلب منه . والمعنى المذكور في هذا التعريف ، فسروه بالخوف ، ولو مما يفعله الحكام الظلمة بالمتهمين كيدا . فإذا كان الدافع هو الحياء مثلا ، أو التودد ، فليس بإكراه .
2 - والفعل - في جانب المكره ( بكسر الراء ) ليس على ما يتبادر منه من خلاف القول ، ولو إشارة الأخرس ، أو مجرد الكتابة ، بل هو أعم ، فيشمل التهديد - لأنه من عمل اللسان - ولو مفهوما بدلالة الحال من مجرد الأمر : كأمر السلطان أو الأمير ، وأمر قاطع الطريق ، وأمر الخانق الذي يبدو منه الإصرار .
(7/126)
والحنفية يقولون : أمر السلطان ، إكراه - وإن لم يتوعد - وأمر غيره ليس بإكراه ، إلا أن يعلم تضمنه التهديد بدلالة الحال .
وغير الحنفية يسوون بين ذوي البطش والسطوة أيا كانوا ، وصاحب المبسوط نفسه من الحنفية يقول : إن من عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ، ولكنهم لا يعاقبون مخالفيهم إلا به .
3 - ثم المراد بالفعل المذكور - فعل واقع على المكره ( بالفتح ) نفسه - ولو كان تهديدا بأخذ أو حبس ماله الذي له وقع ، لا التافه الذي لا يعتد به ، أو تهديدا بالفجور بامرأته إن لم يطلقها . ويستوي التهديد المقترن بالفعل المهدد به - كما في حديث : أخذ عمار بن ياسر ، وغطه في الماء ليرتد . والتهديد المجرد ، خلافا لمن لم يعتد بمجرد التهديد ، كأبي إسحاق المروزي من الشافعية ، واعتمد . الخرقي من الحنابلة ، تمسكا بحديث عمار هذا ، واستدل الآخرون بالقياس حيث لا فرق ، وإلا توصل المعتدون إلى أغراضهم - بالتهديد المجرد - دون تحمل تبعة ، أو هلك الواقع عليهم هذا التهديد إذا رفضوا الانصياع له ، فكان إلقاء بالأيدي في التهلكة ، وكلاهما محذور لا يأتي الشرع بمثله . بل في الأثر عن عمر - وفيه انقطاع - ما يفيد هذا التعميم : ذلك أن رجلا في عهده تدلى يشتار ( يستخرج ) عسلا ، فوقفت امرأته على الحبل ، وقالت : طلقني ثلاثا ، وإلا قطعته ، فذكرها الله والإسلام ، فقالت : لتفعلن ، أو لأفعلن ، فطلقها ثلاثا . ورفعت القصة إلى عمر ، فرأى طلاق الرجل لغوا ، ورد عليه المرأة ، ولذا اعتمد ابن قدامة عدم الفرق .
(7/127)
ويتفرع على هذا التفسير أنه لو وقع التهديد بقتل رجل لا يمت إلى المهدد بسبب ، إن هو لم يدل على مكان شخص بعينه يراد للقتل ، فإن هذا لا يكون إكراها ، حتى لو أنه وقعت الدلالة ممن طلبت منه ، ثم قتل الشخص المذكور ، لكان الدال معينا على هذا القتل عن طواعية إن علم أنه المقصود - والمعين شريك للقاتل عند أكثر أهل العلم ، بشرائط خاصة - وذهب أبو الخطاب الحنبلي إلى أن التهديد في أجنبي إكراه في الأيمان ، واستظهره ابن رجب .
4 - والفعل ، في جانب المكره ( بفتح الراء ) ، هو أيضا أعم من فعل اللسان وغيره ، إلا أن أفعال القلوب لا تقبل الإكراه ، فيشمل القول بلا شك .
وفيما يسميه فقهاؤنا بالمصادرة في أبواب البيوع وما إليها ، الفعل الذي يطلب من المكره ( بالفتح ) دفع المال وغرامته ، لا سبب الحصول عليه من بيع أو غيره - كاستقراض - فيصح السبب ويلزم وإن علم أنه لا مخلص له إلا بسبب معين ، إلا أن المكره ( بالكسر ) لم يعينه له في إكراهه إياه . ولذا قالوا : إن الحيلة في جعل السبب مكرها عليه ، أن يقول : المكره ( بالفتح ) : من أين أتى بالمال ؟ فإذا عين له المكره ( بالكسر ) سببا ، كأن قال له : بع كذا ، أو عند ابن نجيم اقتصر على الأمر بالبيع دون تعيين المبيع ، وقع هذا السبب المعين تحت طائلة الإكراه .
ولم يخالف في هذا إلا المالكية - باستثناء ابن كنانة ومتابعيه - إذ جعلوا السبب أيضا مكرها عليه بإطلاق .
ويشمل التهديد بإيذاء الغير ، ممن يحبه من وقع عليه التهديد - على الشرط المعتبر فيما يحصل به الإكراه من أسبابه المتعددة - بشريطة أن يكون ذلك المحبوب رحما محرما ، أو - كما زاد بعضهم - زوجة .
(7/128)
والمالكية ، وبعض الحنابلة يقيدونه بأن يكون ولدا وإن نزل ، أو والدا وإن علا . والشافعية - وخرجه صاحب القواعد الأصولية من الحنابلة - لا يقيدونه إلا بكونه ممن يشق على المكره ( بالفتح ) إيذاؤه مشقة شديدة كالزوجة ، والصديق ، والخادم . ومال إليه بعض الحنابلة . حتى لقد اعتمد بعض الشافعية أن من الإكراه ما لو قال الوالد لولده ، أو الولد لوالده ( دون غيرهما ) : طلق زوجتك ، وإلا قتلت نفسي ، بخلاف ما لو قال : وإلا كفرت ، لأنه يكفر في الحال .
وفي التقييد بالولد أو الوالد نظر لا يخفى .
كما أنه يصدق على نحو الإلقاء من شاهق أي : الإلجاء بمعناه الحقيقي المنافي للقدرة الممكنة من الفعل والترك .
والمالكية - وجاراهم ابن تيمية - اكتفوا بظن الضرر من جانب المكره ( بالفتح ) إن لم يفعل ، وعبارتهم : يكون ( أي الإكراه ) بخوف مؤلم .
الألفاظ ذات الصلة :
- الرضى والاختيار :
الرضى لغة : الاختيار . يقال : رضيت الشيء ورضيت به : اخترته . والاختيار لغة : أخذ ما يراه خيرا .
وأما في الاصطلاح ، فإن جمهور الفقهاء لم يفرقوا بين الرضى والاختيار ، لكن ذهب الحنفية إلى التفرقة بينهما .
فالرضى عندهم هو : امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته ، بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها .
أو هو : إيثار الشيء واستحسانه . والاختيار عند الحنفية هو : القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر . أو هو : القصد إلى الشيء وإرادته .
حكم الإكراه :
6 - الإكراه بغير حق ليس محرما فحسب ، بل هو إحدى الكبائر ، لأنه أيضا ينبئ بقلة الاكتراث بالدين ، ولأنه من الظلم . وقد جاء في الحديث القدسي : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... » .
شرائط الإكراه
الشريطة الأولى :
(7/129)
7 - قدرة المكره ( بالكسر ) على إيقاع ما هدد به ، لكونه متغلبا ذا سطوة وبطش - وإن لم يكن سلطانا ولا أميرا - ذلك أن تهديد غير القادر لا اعتبار له .
الشريطة الثانية :
8 - خوف المكره ( بفتح الراء ) من إيقاع ما هدد به ، ولا خلاف بين الفقهاء في تحقق الإكراه إذا كان المخوف عاجلا . فإن كان آجلا ، فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة والأذرعي من الشافعية إلى تحقق الإكراه مع التأجيل . وذهب جماهير الشافعية إلى أن الإكراه لا يتحقق مع التأجيل ، ولو إلى الغد . والمقصود بخوف الإيقاع غلبة الظن ، ذلك أن غلبة الظن معتبرة عند عدم الأدلة ، وتعذر التوصل إلى الحقيقة .
الشريطة الثالثة :
9 - أن يكون ما هدد به قتلا أو إتلاف عضو ، ولو بإذهاب قوته مع بقائه كإذهاب البصر ، أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها ، أو غيرهما مما يوجب غما يعدم الرضا ، ومنه تهديد المرأة بالزنى ، والرجل باللواط .
أما التهديد بالإجاعة ، فيتراوح بين هذا وذاك ، فلا يصير ملجئا إلا إذا بلغ الجوع بالمكره ( بالفتح ) حد خوف الهلاك .
ثم الذي يوجب غما يعدم الرضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال : فليس الأشراف كالأراذل ، ولا الضعاف كالأقوياء ، ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير ، والنظر في ذلك مفوض إلى الحاكم ، يقدر لكل واقعة قدرها .
الشريطة الرابعة :
10 - أن يكون المكره ممتنعا عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه ، إما لحق نفسه - كما في إكراهه على بيع ماله - وإما لحق شخص آخر ، وإما لحق الشرع - كما في إكراهه ظلما على إتلاف مال شخص آخر ، أو نفس هذا الشخص ، أو الدلالة عليه لذلك أو على ارتكاب موجب حد في خالص حق الله ، كالزنى وشرب الخمر .
الشريطة الخامسة :
(7/130)
11 - أن يكون محل الفعل المكره عليه متعينا . وهذا عند الشافعية وبعض الحنابلة على إطلاقه . وفي حكم المتعين عند الحنفية ، ومن وافقهم من الحنابلة ما لو خير بين أمور معينة . ويتفرغ على هذا حكم المصادرة التي سلف ذكره في فقرة .
ومنه يستنبط أن موقف المالكية في حالة الإبهام أدنى إلى مذهب الحنفية ، بل أوغل في الاعتداد بالإكراه حينئذ ، لأنهم لم يشترطوا أن يكون مجال الإبهام أمورا معينة .
أما الإكراه على طلاق إحدى هاتين المرأتين ، أو قتل أحد هذين الرجلين ، فمن مسائل الخلاف الذي صدرنا به هذه الشريطة : فعند الحنفية والمالكية ، ومعهم موافقون من الشافعية والحنابلة ، يتحقق الإكراه برغم هذا التخيير .
وعند جماهير الشافعية ، وقلة من الحنابلة ، لا يتحقق ، لأن له مندوحة عن طلاق كل بطلاق الأخرى - وكذا في القتل - نتيجة عدم تعيين المحل . والتفصيل في الفصل الثاني . الشريطة السادسة :
12 - ألا يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه ، فإن كانت له مندوحة عنه ، ثم فعله لا يكون مكرها عليه ، وعلى هذا لو خير المكره بين أمرين فإن الحكم يختلف تبعا لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحل ، وتفصيل الكلام في ذلك كما يلي :
إن الأمرين المخير بينهما إما أن يكون كل واحد منهما محرما لا يرخص فيه ، ولا يباح أصلا ، كما لو وقع التخيير بين الزنى والقتل .
أو يكون كل واحد منهما محرما يرخص فيه عند الضرورة ، كما لو وقع التخيير بين الكفر وإتلاف مال الغير . أو يكون كل واحد منهما محرما يباح عند الضرورة ، كما لو وقع التخيير بين أكل الميتة وشرب الخمر . أو يكون كل واحد منهما مباحا أصالة أو للحاجة ، كما لو وقع التخيير بين طلاق امرأته وبيع شيء من ماله ، أو بين جمع المسافر الصلاة في الحج وفطره في نهار رمضان .
(7/131)
ففي هذه الصور الأربع التي يكون الأمران المخير بينهما متساويين في الحرمة أو الحل ، يترتب حكم الإكراه على فعل أي واحد من الأمرين المخير بينهما ، وهو الحكم الذي سيجيء تقريره بخلافاته وكل ما يتعلق به ، لأن الإكراه في الواقع ليس إلا على الأحد الدائر دون تفاوت ، وهذا لا تعدد فيه ، ولا يتحقق إلا في معين ، وقد خالف في هذا أكثر الشافعية وبعض الحنابلة ، فنفوا حصول الإكراه في هذه الصور .
وإن تفاوت الأمران المخير بينهما ، فإن كان أحدهما محرما لا يرخص فيه ولا يباح بحال كالزنى والقتل ، فإنه لا يكون مندوحة ، ويكون الإكراه واقعا على المقابل له ، سواء أكان هذا المقابل محرما يرخص فيه عند الضرورة ، كالكفر وإتلاف مال الغير ، أم محرما يباح عند الضرورة ، كأكل الميتة وشرب الخمر ، أم مباحا أصالة أو للحاجة ، كبيع كشيء معين من مال المكره ، والإفطار في نهار رمضان ، ويترتب على هذا الإكراه حكمه الذي سيجيء تفصيله بخلافاته .
وتكون هذه الأفعال مندوحة مع المحرم الذي لا يرخص فيه ولا يباح بحال ، أما هو فإنه لا يمكن مندوحة لواحد منها ، ففي الصور الثلاث المذكور آنفا ، وهي ما لو وقع التخيير بين الزنى أو القتل وبين الكفر أو إتلاف مال الغير ، أو وقع التخيير بين الزنى أو القتل وبين أكل الميتة أو شرب الخمر ، أو وقع التخيير بين الزنى أو القتل وبين بيع شيء معين من المال ، فإن الزنى أو القتل لا يكون مكرها عليه ، فمن فعل واحدا منهما كان فعله صادرا عن طواعية لا إكراه ، فيترتب عليه أثره إذا كان الإكراه ملجئا حتى يتحقق الإذن في فعل المندوحة ، وكان الفاعل عالما بالإذن له في فعل المندوحة عند الإكراه .
(7/132)
وإن كان أحد الأمرين المخير بينهما محرما يرخص فيه عند الضرورة ، والمقابل له محرما يباح عند الضرورة ، كما لو وقع التخيير بين الكفر أو إتلاف مال الغير ، وبين أكل الميتة أو شرب الخمر ، فإنهما يكونان في حكم الأمرين المتساويين في الإباحة ، فلا يكون أحدهما مندوحة عن فعل الآخر ، ويكون الإكراه واقعا على فعل كل واحد من الأمرين المخير بينهما ، متى كان بأمر متلف للنفس أو لأحد الأعضاء .
وإن كان أحد الأمرين محرما يرخص فيه أو يباح عند الضرورة ، والمقابل له مباحا أصالة أو للحاجة ، كما لو وقع التخيير بين الكفر أو شرب الخمر ، وبين بيع شيء من مال المكره أو الفطر في نهار رمضان ، فإن المباح في هذه الحالة يكون مندوحة عن الفعل المحرم الذي يرخص فيه أو يباح عند الضرورة ، وعلى هذا يظل على تحريمه ، سواء كان الإكراه بمتلف للنفس أو العضو أو بغير متلف لأحدهما ، لأن الإكراه بغير المتلف لا يزيل الحظر عند الحنفية مطلقا ، والإكراه بمتلف - وإن كان يزيل الحظر - إلا أن إزالته له بطريق الاضطرار ، ولا اضطرار مع وجود المقابل المباح .
تقسيم الإكراه
ينقسم الإكراه إلى : إكراه بحق ، وإكراه بغير حق . والإكراه بغير حق ينقسم إلى إكراه ملجئ ، وإكراه غير ملجئ .
أولا : الإكراه بحق :
تعريفه :
13 - هو الإكراه المشروع ، أي الذي لا ظلم فيه ولا إثم . وهو ما توافر فيه أمران : الأول : أن يحق للمكره التهديد بما هدد به . الثاني : أن يكون المكره عليه مما يحق للمكره الإلزام به . وعلى هذا فإكراه المرتد على الإسلام إكراه بحق ، حيث توافر فيه الأمران ، وكذلك إكراه المدين القادر على وفاء الدين ، وإكراه المولي على الرجوع إلى زوجته أو طلاقها إذا مضت مدة الإيلاء .
أثره :
(7/133)
14 - والعلماء عادة يقولون : إن الإكراه بحق ، لا ينافي الطوع الشرعي - وإلا لم تكن له فائدة ، ويجعلون من أمثلته إكراه العنين على الفرقة ، ومن عليه النفقة على الإنفاق ، والمدين والمحتكر على البيع ، وكذلك من له أرض بجوار المسجد أو المقبرة أو الطريق يحتاج إليها من أجل التوسيع ، ومن معه طعام يحتاجه مضطر .
ثانيا : الإكراه بغير حق :
تعريفه :
15 - الإكراه بغير حق هو الإكراه ظلما ، أو الإكراه المحرم ، لتحريم وسيلته ، أو لتحريم المطلوب به . ومنه إكراه المفلس على بيع ما يترك له ..
الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ :
16 - تقسيم الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ يتفرد به الحنفية .
فالإكراه الملجئ عندهم هو الذي يكون بالتهديد بإتلاف النفس أو عضو منها ، أو بإتلاف جميع المال ، أو بقتل من يهم الإنسان أمره .
وحكم هذا النوع أنه يعدم الرضى ويفسد الاختيار ولا يعدمه . أما إعدامه للرضى ، فلأن الرضا هو الرغبة في الشيء والارتياح إليه ، وهذا لا يكون مع أي إكراه .
وأما إفساده للاختيار دون إعدامه ، فلأن الاختيار هو : القصد إلى فعل الشيء أو تركه بترجيح من الفاعل ، وهذا المعنى لا يزول بالإكراه ، فالمكره يوقع الفعل بقصده إليه ، إلا أن هذا القصد تارة يكون صحيحا سليما ، إذا كان منبعثا عن رغبة في العمل ، وتارة يكون فاسدا ، إذا كان ارتكابا لأخف الضررين ، وذلك كمن أكره على أحد أمرين كلاهما شر ، ففعل أقلهما ضررا به ، فإن اختياره لما فعله لا يكون اختيارا صحيحا ، بل اختيارا فاسدا . والإكراه غير الملجئ هو : الذي يكون بما لا يفوت النفس أو بعض الأعضاء ، كالحبس لمدة قصيرة ، والضرب الذي لا يخشى منه القتل أو تلف بعض الأعضاء .
(7/134)
وحكم هذا النوع أنه يعدم الرضا ولكن لا يفسد الاختيار ، وذلك لعدم اضطرار المكره إلى الإتيان بما أكره عليه ، لتمكنه من الصبر على تحمل ما هدد به بخلاف النوع الأول .
17 - أما غير الحنفية فلم يقسموا الإكراه إلى ملجئ وغير ملجئ كما فعل الحنفية ، ولكنهم تكلموا عما يتحقق به الإكراه وما لا يتحقق ، ومما قرروه في هذا الموضوع يؤخذ أنهم جميعا يقولون بما سماه الحنفية إكراها ملجئا ، أما ما يسمى بالإكراه غير الملجئ فإنهم يختلفون فيه ، فعلى إحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد يعتبر إكراها ، وعلى الرواية الأخرى لا يعتبر إكراها .
أما عند المالكية فإنه لا يعتبر إكراها بالنسبة لبعض المكره عليه ، ويعتبر إكراها بالنسبة للبعض الآخر ، فمن المكره عليه الذي لا يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراها فيه : الكفر بالقول أو الفعل ، والمعصية التي تعلق بها حق لمخلوق ، كالقتل أو القطع ، والزنى بامرأة مكرهة أو لها زوج ، وسب نبي أو ملك أو صحابي ، أو قذف لمسلم .
ومن المكره عليه الذي يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراها فيه : شرب الخمر ، وأكل الميتة ، والطلاق والأيمان والبيع وسائر العقود والحلول والآثار .
أثر الإكراه :
18 - هذا الأثر موضع خلاف ، بين الحنفية وغير الحنفية ، على النحو الآتي :
أثر الإكراه عند الحنفية :
(7/135)
19 - يختلف أثر الإكراه عند الحنفية باختلاف القول أو الفعل الذي يقع الإكراه عليه ، فإن كان المكره عليه من الإقرارات ، كان أثر الإكراه إبطال الإقرار وإلغاءه ، سواء كان الإكراه ملجئا أم غير ملجئ . فمن أكره على الاعتراف بمال أو زواج أو طلاق كان اعترافه باطلا ، ولا يعتد به شرعا ، لأن الإقرار إنما جعل حجة في حق المقر باعتبار ترجح جانب الصدق فيه على جانب الكذب ، ولا يتحقق هذا الترجيح مع الإكراه ، إذ هو قرينة قوية على أن المقر لا يقصد بإقراره الصدق فيما أقر به ، وإنما يقصد دفع الضرر الذي هدد به عن نفسه . وإن كان المكره عليه من العقود والتصرفات الشرعية كالبيع والإجارة والرهن ونحوها كان أثر الإكراه فيها إفسادها لا إبطالها ، فيترتب عليها ما يترتب على العقد الفاسد ، حسب ما هو مقرر في المذهب أنه ينقلب صحيحا لازما بإجازة المكره ، وكذلك لو قبض المكره الثمن ، أو سلم المبيع طوعا ، يترتب عليه صحة البيع ولزومه .
(7/136)
وحجتهم في ذلك أن الإكراه عندهم لا يعدم الاختيار الذي هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس ، وإنما يعدم الرضى الذي هو الارتياح إلى الشيء والرغبة فيه ، والرضى ليس ركنا من أركان هذه التصرفات ولا شرطا من شروط انعقادها ، وإنما هو شرط من شروط صحتها ، فإذن فقد ترتب على فقدانه فساد العقد لا بطلانه . ولكنهم استثنوا من ذلك بعض التصرفات ، فقالوا بصحتهما مع الإكراه ، ولو كان ملجئا ، ومن هذه التصرفات : الزواج والطلاق ومراجعة الزوجة والنذر واليمين . وعللوا هذا بأن الشارع اعتبر اللفظ في هذه التصرفات - عند القصد إليه - قائما مقام إرادة معناه ، فإذا وجد اللفظ ترتب عليه أثره الشرعي ، وإن لم يكن لقائله قصد إلى معناه ، كما في الهازل ، فإن الشارع اعتبر هذه التصرفات صحيحة إذا صدرت منه ، مع انعدام قصده إليها ، وعدم رضاه بما يترتب عليها من الآثار . وإن كان المكره عليه من الأفعال ، كالإكراه على قتل من لا يحل قتله ، أو إتلاف مال لغيره أو شرب الخمر وما أشبه ذلك ، فالحكم فيها يختلف باختلاف نوع الإكراه والفعل المكره عليه .
20 - فإن كان الإكراه غير ملجئ - وهو الذي يكون بما لا يفوت النفس ، أو بعض الأعضاء كالحبس لمدة قصيرة ، أو أخذ المال اليسير ، ونحو ذلك - فلا يحل الإقدام على الفعل . وإذا أقدم المكره ( بالفتح ) على الفعل بناء على هذا الإكراه كانت المسئولية عليه وحده ، لا على من أكرهه
21 - وإن كان الإكراه ملجئا - وهو الذي يكون بالقتل أو تفويت بعض الأعضاء أو العمل المهين لذي الجاه - فالأفعال بالنسبة إليه أربعة أنواع :
أ - أفعال أباحها الشارع أصالة دون إكراه كالأكل والشرب ، فإنه إذا أكره على ارتكابها وجب على المكره ( بالفتح ) أن يرتكب أخف الضررين .
(7/137)
ب - أفعال أباح الشارع إتيانها عند الضرورة ، كشرب الخمر وأكل لحم الميتة أو الخنزير ، وغير ذلك من كل ما حرم لحق الله لا لحق الآدمي ، فالعقل - مع الشرع - يوجبان ارتكاب أخف الضررين .
فهذه يباح للمكره فعلها ، بل يجب عليه الإتيان . بها ، إذا ترتب على امتناعه قتل نفسه أو تلف عضو من أعضائه ، لأن الله تعالى أباحها عند الضرورة بقوله عز من قائل : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } .
ولا شك أن الإكراه الملجئ من الضرورة التي رفع الله الإثم فيها ، فيباح الفعل عند تحققها ، وتناول المباح دفعا للهلاك عن النفس أو بعض أجزائها واجب ، فلا يجوز تركه ، ولو شرب الخمر مكرها لم يحد ، لأنه لا جناية حينئذ ، والحد إنما شرع زجرا عن الجنايات .
ج - أفعال رخص الشارع في فعلها عند الضرورة ، إلا أنه لو صبر المكره على تحمل الأذى ، ولم يفعلها حتى مات ، كان مثابا من الله تعالى ، وذلك كالكفر بالله تعالى أو الاستخفاف بالدين ، فإذا أكره الإنسان على الإتيان بشيء من ذلك جاز له الفعل متى كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لقول الله عز وجل { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
ومن السنة ما جاء بإسناد صحيح عند الحاكم والبيهقي وغيرهما عن محمد بن عمار عن أبيه « أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ، فلما أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال : ما وراءك ؟ قال : شر ، يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، قال صلى الله عليه وسلم : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنا بالإيمان ، قال صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد » .
(7/138)
وقد ألحق علماء المذهب بهذا النوع الإكراه على إفساد صوم رمضان ، أو ترك الصلاة المفروضة ، أو إتلاف مال الغير ، فإن المكره لو صبر وتحمل الأذى ، ولم يفعل ما أكره عليه كان مثابا ، وإن فعل شيئا منها فلا إثم عليه ، وكان الضمان في صورة الإتلاف على الحامل عليه لا على الفاعل ، لأن فعل الإتلاف يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلة له ، فيثبت الضمان عليه .
د - أفعال لا يحل للمكره الإقدام عليها بحال من الأحوال ، كقتل النفس بغير حق ، أو قطع عضو من أعضائها ، أو الضرب الذي يؤدي إلى الهلاك ، فهذه الأفعال لا يجوز للمكره الإقدام عليها ، ولو كان في امتناعه عنها ضياع نفسه ، لأن نفس الغير معصومة كنفس المكره ، ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بإيقاعه على غيره ، فإن فعل كان آثما ، ووجب عقاب الحامل له على هذا الفعل باتفاق علماء المذهب ، والخلاف بينهم إنما هو في نوع هذا العقاب .
فأبو حنيفة ومحمد يقولان : إنه القصاص ، لأن القتل يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلة له ، والقصاص إنما يكون على القاتل لا على آلة القتل .
وأبو يوسف يقول : إنه الدية ، لأن القصاص لا يثبت إلا بالجناية الكاملة ، ولم توجد الجناية الكاملة بالنسبة لكل من الحامل والمكره .
(7/139)
وهذا القتل يقوم مانعا من الإرث بالنسبة للمكره ( بالكسر ) إذا كان المكره ( بالفتح ) مكلفا . أما إذا كان غير مكلف كالصبي أو المجنون فلا يكون مانعا . وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ، أما أبو يوسف فلا يحرم ولو كان المكره مكلفا . أما بالنسبة للمكره ( بالفتح ) فلا يحرم باتفاق الحنفية . وإنما يجب القصاص عند أبي حنيفة ومحمد على المكره إذا كان المطلوب قتله شخصا ثالثا غير المكره ولا المكره ، فإن كان المطلوب قتله هو المكره كأن قال للذي قتله : اقتلني وإلا قتلتك ، فقتله ، فلا قصاص على القاتل ، وتجب الدية لوجود الشبهة ، ولأن الدية تثبت للوارث ابتداء لا ميراثا عن المقتول .
وأما إن كان المطلوب قتله هو المكره ، فإنه لا يكون ثم إكراه ، لأن المهدد به لا يزيد على القتل ، فلا يتحقق الإكراه ولا شيء من آثاره ، فلا قصاص ولا دية في هذا القتل ، إلا إذا كان التهديد بقتل أشنع كما لو قال له : لتلقين نفسك في النار أو لأقتلنك ، فعند أبي حنيفة يختار ما هو الأهون في ظنه ، وعند الصاحبين : يصبر ولا يقتل نفسه ، لأن مباشرة الفعل سعي في إهلاك نفسه فيصبر تحاميا عنه . ثم إذا ألقى نفسه في النار فاحترق فعلى المكره القصاص باتفاقهم ، كما في الزيلعي .
ونقل صاحب مجمع الأنهر أن القصاص إنما هو عند أبي حنيفة خلافا للصاحبين .
(7/140)
ومن هذا النوع أيضا : الزنى ، فإنه لا يرخص فيه مع الإكراه ، كما لا يرخص فيه حالة الاختيار ، لأن حرمة الزنى لا ترتفع بحال من الأحوال ، فإذا فعله إنسان تحت تأثير الإكراه كان آثما ، ولكن لا يجب عليه الحد ، لأن الإكراه يعتبر شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات . وقد أورد البابرتي من الحنفية ضابطا لأثر الإكراه نصه : الإكراه الملجئ معتبر شرعا سواء ، أكان على القول أم الفعل . والإكراه غير الملجئ إن كان على فعل فليس بمعتبر ، ويجعل كأن المكره فعل ذلك الفعل بغير إكراه . وإن كان على قول ، فإن كان قولا يستوي فيه الجد والهزل فكذلك ، وإلا فهو معتبر .
أثر الإكراه عند المالكية :
22 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه :
أ - فإن كان المكره عليه عقدا أو حلا أو إقرارا أو يمينا لم يلزم المكره شيء ، ويكون الإكراه في ذلك بالتخويف بقتل أو ضرب مؤلم أو سجن أو قيد أو صفع لذي مروءة على ملأ من الناس . وإن أجاز المكره ( بالفتح ) شيئا مما أكره عليه - غير النكاح - طائعا بعد زوال الإكراه لزم على الأحسن ، وأما النكاح فلا تصح إجازته .
ب - وإن كان الإكراه على الكفر بأي صورة من صوره ، أو قذف المسلم بالزنى ، أو الزنى بامرأة طائعة خلية ( غير متزوجة ) ، فلا يحل له الإقدام على شيء من هذه الأشياء إلا في حالة التهديد بالقتل ، لا فيما دونه من قطع أو سجن ونحوه ، فإن فعل ذلك اعتبر مرتدا ، ويحد في قذف المسلم ، وفي الزنى .
(7/141)
ج - وإن كان الإكراه على قتل مسلم ، أو قطع عضو منه ، أو على زنى بمكرهة ، أو بامرأة لها زوج ، فلا يجوز الإقدام على شيء من ذلك ولو أكره بالقتل . فإن قتل يقتص منه ، ويعتبر القتل هنا مانعا للقاتل من ميراث المقتول ، لأنه شريك في الفعل ، وكذلك المكره ( بالكسر ) يقتص منه أيضا ويمنع من الميراث . وإنما يجب القصاص عندهم على المكره والمكره ، إذا كان المطلوب قتله شخصا ثالثا غيرهما .
فإن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالكسر ) كما لو قال للذي قتله : اقتلني وإلا قتلتك فقتله ، فلا قصاص عندهم وتجب الدية ، لمكان الشبهة من ناحية ، وبناء على أن الدية تثبت للوارث ابتداء لا ميراثا . وأما إن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالفتح ) ، فالأصل أنه لا يتحقق الإكراه في هذه الحالة ، ولا قصاص فيه ولا دية ، إلا إذا كان التهديد بقتل أشنع ، كالإحراق بالنار وبتر الأعضاء حتى الموت ، فإن المكره ( بالفتح ) يختار أهون الميتتين ، جزم به اللقاني . وإن زنى يحد .
د - وأما لو أكره على فعل معصية - غير الكفر - لا حق فيها لمخلوق كشرب خمر وأكله ميتة ، أو إبطال عبادة كصلاة وصوم ، أو على تركها فيتحقق الإكراه بأية وسيلة من قتل أو غيره . ويترتب عليه في الصوم القضاء دون الكفارة . وفي الصلاة يكون الإكراه بمنزلة المرض المسقط لبعض أركانها ، ولا يسقط وجوبها . وفي شرب الخمر لا يقام الحد . وألحق سحنون بهذا النوع الزنى بامرأة طائعة لا زوج لها ، خلافا للمذهب .
ويضيف المالكية أن القطع في السرقة يسقط بالإكراه مطلقا ، ولو كان بضرب أو سجن لأنه شبهة تدرأ الحد .
أثر الإكراه عند الشافعية :
23 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه .
(7/142)
أ - الإكراه بالقول : إذا كان المكره عليه عقدا أو حلا أو أي تصرف قولي أو فعلي ، فإنه لا يصح عملا بعموم الحديث الصحيح : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » إذ المقصود ليس رفع ما وقع لمكان الاستحالة ، وإنما رفع حكمه ، ما لم يدل دليل على خلاف ذلك ، فيخصص هذا العموم في موضع دلالته . وبمقتضى أدلة التخصيص يقرر الشافعية أنه لا أثر لقول المكره ( بالفتح ) إلا في الصلاة فتبطل به وعلى هذا فيباح للمكره ( بالفتح ) التلفظ بكلمة الكفر ، ولا يجب ، بل الأفضل الامتناع مصابرة على الدين واقتداء بالسلف .
وفي طلاق زوجة المكره ( بالكسر ) أو بيع ماله ونحوهما من كل ما يعتبر الإكراه فيه إذنا أبلغ . والإكراه في شهادة الزور التي تفضي إلى القتل أو الزنى ، وفي الإكراه بالحكم الباطل الذي يفضي إلى القتل أو الزنى ، فلا يرتفع الإثم عن شاهد الزور ، ولا عن الحاكم الباطل ، وحكمهما في هذه الحالة من حيث الضمان حكم المكره ( بالكسر )
ب - الإكراه بالفعل : لا أثر للإكراه بالفعل عند الشافعية إلا فيما يأتي :
-1 -الفعل المضمن كالقتل أو إتلاف المال أو الغصب ، فعلى المكره ( بالفتح ) القصاص أو الضمان ، وقرار الضمان على المكره ( بالكسر ) ، وإن قيل : لا رجوع له على المكره ( بالكسر ) بما غرم في إتلاف المال ، لأنه افتدى بالإتلاف نفسه عن الضرر . قال القليوبي في مسألة القتل : فيقتل هو المكره ( بالفتح ) ومن أكرهه .
-2- الزنى وما إليه : يأثم المكره ( بالفتح ) بالزنى ، ويسقط الحد للشبهة ، ويترتب على وطء الشبهة حكمه .
-3 - الرضاع : فيترتب عليه التحريم المؤبد في المناكحات وما ألحق بها .
-4- كل فعل يترتب عليه بطلان الصلاة ، كالتحول عن القبلة ، والعمل الكثير ، وترك قيام القادر في الفريضة ، والحدث ، فتبطل الصلاة بما تقدم برغم الإكراه عليه .
(7/143)
-5- ذبح الحيوان : تحل ذبيحة المكره ( بالفتح ) الذي تحل ذبيحته ، كالمسلم والكتابي ولو كان المكره ( بالكسر ) مجوسيا ، أو محرما والمذبوح صيد .
قال السيوطي : وقد رأيت الإكراه يساوي النسيان ، فإن المواضع المذكورة ، إما من باب ترك المأمور ، فلا يسقط تداركه ، ولا يحصل الثواب المرتب عليه ، وإما من باب الإتلاف ، فيسقط الحكم المرتب عليه ، وتسقط العقوبة المتعلقة به ، إلا القتل على الأظهر .
أثر الإكراه عند الحنابلة :
24 - يختلف أثر الإكراه عند الحنابلة باختلاف المكره عليه :
أ - فالتصرفات القولية تقع باطلة مع الإكراه إلا النكاح ، فإنه يكون صحيحا مع الإكراه ، قياسا للمكره على الهازل . وإنما لم يقع الطلاق مع الإكراه للحديث الشريف
« لا طلاق في إغلاق » ، والإكراه من الإغلاق .
ب - ومن أكره على الكفر لا يعتبر مرتدا ، ومتى زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه ، والأفضل لمن أكره على الكفر أن يصبر وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن ، فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام ، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا .
أما من يجوز إكراهه على الإسلام كالمرتد ، فإنه إذا أكره فأسلم حكم بإسلامه ظاهرا .
ج - والإكراه يسقط الحدود عن المكره ، لأنه شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .
(7/144)
د - وإذا أكره رجل آخر على قتل شخص فقتله ، وجب القصاص على المكره والمكره جميعا ، وإن صار الأمر إلى الدية وجبت عليهما ، وإن أحب ولي المقتول قتل أحدهما ، وأخذ نصف الدية من الآخر أو العفو فله ذلك . ويعتبر القتل هنا مانعا من الميراث بالنسبة للمكره والمكره . والقصاص عندهم لا يجب على المكره والمكره ، إلا إذا كان المطلوب قتله شخصا ثالثا غيرهما . فإن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالكسر ) فإنه يكون هدرا ، ولا قصاص ولا دية في المختار عندهم . وأما إن كان المطلوب قتله هو المكره ( بالفتح ) ، فلا يتحقق الإكراه في هذه الحالة ، ولا دية ولا قصاص عند بعضهم . إلا إذا كان التهديد بقتل أشنع فعليه أن يختار أهون الميتتين في إحدى الروايتين .
أثر إكراه الصبي على قتل غيره :
25 - إذا كان المكره على القتل صبيا ، فإنه يعتبر آلة في يد المكره عند الحنفية ، فلا قصاص ولا دية ، وإنما القصاص على المكره ( بالكسر ) .
وذهب المالكية إلى وجوب القصاص على المكره ( بالكسر ) ونصف الدية على عاقلة الصبي . وذهب الشافعية إلى التفرقة بين الصبي المميز ، وغير المميز .
فإن كان غير مميز ، اعتبر آلة عندهم ، ولا شيء عليه ، ويجب القصاص على المكره . وإن كان مميزا ، فيجب نصف الدية على عاقلته ، والقصاص على المكره ( بالكسر ) . وذهب الحنابلة إلى أن الصبي غير المميز إذا أكره على قتل غيره فلا قصاص عليه ، والقصاص على المكره ( بالكسر ) . وفي قول : لا يجب القصاص لا عليه وعلى من أكرهه ، لأن عمد الصبي خطأ ، والمكره ( بالكسر ) شريك المخطئ ، ولا قصاص على شريك مخطئ . أما إذا كان الصبي مميزا فلا يجب القصاص على المكره ( بالكسر ) ولا يجب على الصبي المميز .